حسن يوسف والشاطئ المهجور
د. ماهر عبد المحسن
نجحت وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية المتخصصة في عرض الأعمال القديمة مثل “ماسبيرو زمان” و”روتانا زمان”، و”دراما كلاسيك”، في أن تعيدنا إلى طفولتنا البريئة وشبابنا الساحر من خلال استعادة لحظات جميلة عشناها ذات يوم بعيد، وما زالت تلك اللحظات محفورة في وجداننا، فقط تحتاج إلى من يدعك مصباح الإبداع أو يركب آلة زمن الفنون.
انطلاقاً من هذه الحقيقة تبحث الأجيال القديمة عن تلك الأعمال التي تعيدها إلى حياتها الأولى التي ذهبت دون رجعة، وإلى ذواتها المفقودة، التي ضاعت في زحمة الحياة المعاصرة الأكثر سرعة وجنونا!
وأعتبر نفسي واحداً من هؤلاء الذين يخوضون المغامرة نفسها ويمارسون السحر ذاته، مغامرة السفر عبر الزمن وسحر العيش في الأزمنة البعيدة، ليس هذا فحسب بل إني أضع لنفسي برنامجاً شبه منتظم لمشاهدة الأعمال القديمة، من أغان وأفلام ومسلسلات.
والملاحظ أن المسلسلات هي الأكثر سحراً وجاذبية، لأنها ظلت لسنوات طويلة في أرشيف التليفزيون، وبعدت المسافة بيننا وبينها حتى صارت من قبيل الذكريات التي تجئ على الخاطر وتذهب سريعاً دون أمل في استعادتها إلا على النحو نفسه، أي كذكرى عابرة، خلافاً للأفلام التي كان يعيدها التليفزيون باستمرار والأغاني التي كانت تتردد على مسامعنا، في الإذاعة، كل يوم.
غير أن المسألة، بالنسبة للناقد، لا تقف عند حدود سحر الاستعادة وشغف التكرار، فالناقد لا يستطيع أن يشاهد دون أن يتأمل ويحلل ويكتب. والكتابة عن الدراما التليفزيونية القديمة تعاني من الندرة، فلا نجد سوى آراء شخصية يستدعيها المشاهدون حين الحديث عن الماضي الجميل، لكنك لا تجد كتابات احترافية متخصصة، كما هو الحال في السينما، ربما لأن المسلسلات ارتبطت بالتليفزيون الذي تأخر في ظهوره عن السينما لأكثر من نصف قرن.
وبهذا المعنى ستكون الكتابة عن القديم ذات طبيعة خاصة، لأنها كتابة تأتي في زمن مغاير عن زمن العمل، كما أنها تأتي محمّلة بشحنة وجدانية ناجمة عن خبرة التلقي التي، بلا شك، يختلط فيها الذاتي بالموضوعي، لأن الكاتب، في هذه الحالة الفريدة، يعبّر عن العمل وعن علاقته به في الوقت نفسه.
والحقيقة أن المسألة، على المستوى النقدي، تحتاج إلى كتابة طموحة توقف جهدها ووقتها على مشروع يمكنه أن يستوعب هذا التراث الدرامي الضخم، الذي يحمل في طياته معاني الهوية والتاريخ والروح الكلي الذي يجاوز الأفراد والجماعات ويصنع كينونته المطلقة بالمعنى الهيجلي المثالي. فالوقائع الفنية المشتتة في الوعي إلى ذكريات منفصلة تحتاج إلى من يربطها ويستخلص منها المعنى والدلالة.
وفي هذا السياق، كنت أتابع مسلسل “الشاطئ المهجور” الذي أخرجه عادل صادق عام ١٩٧٥، وقام ببطولته حسن يوسف وصفية العمري ومجموعة من نجوم ذلك الزمان. تقع أحداث المسلسل في ١٣ حلقة، وزمن الحلقة في حدود ٢٣ دقيقة، وهي مسألة تعد من مزايا المسلسل، الذي يعتمد على الإيقاع السريع للأحداث، كما أنه مصور بكاميرا سينمائية، ما يجعلك تشعر وكأنك تشاهد فيلماً طويلاً.
القصة اجتماعية لا تخلو من التشويق، لأنها تعتمد على رحلة حمدي (حسن يوسف) من القاهرة إلى الإسكندرية، في رمزية واضحة لرحلة حياته وحياة أسرته، المكونة من الأم (كريمة مختار) والأخ (صلاح السعدني) والأخت (فاطمة مظهر) بعد وفاة الأب (عبد الحفيظ التطاوي)، رجل الأعمال الذي توفي بعد أن أفلست شركته. والرحلة هنا رحلة كفاح تبدأ فيها الأسرة الحياة من الصفر، ولأن حمدي كان الابن الأكبر فقد وقع علي كاهله عبء تحمل المسؤولية، فترك دراسته بكلية الطب واتجه للعمل بمهن مختلفة، كاتب ثم صراف، ثم سائق ثم صياد، من أجل إعالة الأسرة وحتي يستطيع أخواه استكمال دراستهما.
بالرغم من النهاية السعيدة إلا إن حمدي يرتكب جريمة قتل خطأ ويقضي عقوبة السجن، لكنه لا يصل إلي شيء مما أراده عدا التزوج بمن أحب، والبداية مرة أخرى من الصفر، لكن عن طريق البحر هذه المرة كصياد لا عن طريق البر كسائق نقل، ولا تستطيع أن تفهم الحكمة من هذه الرحلة المجانية، والتخبط الذي يقع فيه حمدي إلا من خلال عبارات قليلة يلخص بها الأخ الأصغر، الأكثر عقلانية، رسالة المسلسل عندما يقول لحمدي في الحلقة الأخيرة أنه أخطأ لأنه حاول أن يعود للمستوى الذي كان يعيش فيه أثناء حياة الأب سريعاً، متجاهلاً أن الأب نفسه حقق هذا المستوى خطوة خطوة.
وكان يكفي هذا التفسير، لو كنا نكتب هذا المقال في زمن العرض الأول للمسلسل، أي منذ حوالي نصف قرن، وهي الفترة المفصلية بين نظام اشتراكي كان يغازل الطبقة العاملة ونظام انفتاحي حوّل الطبقة العاملة إلى طبقة متوحشة. فالبطل الحقيقي في المسلسل هو المهنة، التي تكشف عن الطريقة التي يفكر بها الطامعون في الثراء (والد حمدي وعمه وحمدي نفسه من بعدهما)، وتلك التي يفكر بها الراغبون في حياة كريمة (الموظفون والسائقون والصيادون). وبهذا المعنى كان يمكن للتحليل النفسي والاجتماعي أن يساعدا في فهم الأبعاد المركبة لشخصية حمدي، الذي يحمل بداخله شخصية أرستقراطية، بحكم النشأة والتربية، لكنه يضطر للعيش كموظف أو عامل بسيط بحكم الظروف، وهو ما تبدى في اليوم الأول للعمل عندما تعرّض للسخرية من زملائه بسبب ملابسه غالية الثمن التي لا تتناسب وطبيعة الوظيفة المتواضعة التي قبل مرغماً العمل بها.
غير أن البعد الميتافيزيقي الذي تضمنه السيناريو لم ينجح في حل هذا التناقض، لأنه هو نفسه كان في حاجة إلى تفسير. فحلم اليقظة الذي كان يراه حمدي، باستمرار، حول الفتاة الساحلية التي تأتي إليه وتأخذه بين ذراعيها لم يكن له مبرر منطقي واضح، خاصة أنه التقي بها في الحلقات الأخيرة من المسلسل ولم يكن قد رآها من قبل على الحقيقة.
وفي السياق نفسه، لا يمكننا تفسير التناقض الذي كان يشوب تصرفات بعض الشخصيات، كأن يمارس أحمد الجزيري، الرجل الطيب المحافظ، الرذيلة مع راقصة من باب التسرية عن النفس، أو أن تضحي العاهرة التي لا مبدأ لها بمصدر رزقها من أجل الحب!
كما أن رمزية العنوان “الشاطئ المهجور” ، تجعلنا نتجاوز المعنى الحرفي الذي صوره المسلسل لنتساءل عن المقصود بالشاطئ المهجور، فالشاطئ يرمز في الغالب إلى الأمان والاستقرار، فهل كان ثمة حل للأزمة أو طريق آخر لم يعرفه حمدي؟ ربما كان الحب وربما كان الرزق، وكلاهما وجده حمدي أخيراً في العمل على المراكب كصياد، فالصيد يرمز إلى الرزق، والذين يعملون في البحر ويعيشون علي شواطئه يحملون قلوباً صافية كماء البحر. ويظل السفر، رغم صعوباته ومخاطره، هو الحل، وهو ما تؤكده كلمات التتر التي كتبها عبد الرحيم منصور، ولحنها وغناها حسن نشأت، وتقول:
“قلبي يا طير مروح.. مروح في الغروب.. يا غريب عن الصحاب وغريب عن الدروب.. عطشان والميه في إيديه.. حيران مش لاقي مراسيه.. دور ع الناس.. في قلوب الناس.. هتلاقي الخير والخير في الناس.. دور ع الناس”.