“بوني وكلايد”.. تحطيم أصنام العنف المحرم

وارين بيتي وفاي دوناواي في "بوني وكلايد" (1967( وارين بيتي وفاي دوناواي في "بوني وكلايد" (1967(
Print Friendly, PDF & Email

ترجمة رشا كمال

تسبب فيلم “بوني وكلايدBonnie and Clyde في إثارة فتنة كبيرة في العالم عند صدوره في عام 1967. ولكن الإرث الذي خلفه هذا الفيلم المتوحش الكلاسيكي قد فتح الأبواب على مصراعيها لكل أشكال العنف على الشاشة طيلة الأربعين عاماً اللاحقة.

عرض “بوني وكلايد” لأول مرة في لندن قبل أربعين عاماً، أي ما يعني بالضبط في النقطة الزمنية الفاصلة بين وقتنا الحاضر وفترة ظهور الأفلام الناطقة عام 1927. وأصبح يمثل الآن علامة فارقة في تاريخ السينما وذلك لأسباب عدة، ليس أقلها كونه المورّوث الأصلي للعنف على الشاشة. فقد حظي باستقبال إيجابي على نطاق واسع، ونادراً ما شعرت بتلك الإثارة في مؤتمر صحفي مثلما حدث صباح ذلك اليوم في دور عرض وارنر (أصبحت فيو حالياً).

الجميع كانوا متحمسين لمقابلة بطل العمل ومنتجه وارين بيتي بعد انتهاء العرض، وهو الممثل الذي لا يزال يُعتقد حتى وقتنا هذا أنه صاحب الأدوار الخفيفة على الرغم من دوريه الثقيلين في فيلمي “ليليث” إخراج روبرت روسن، والفيلم ذو الطابع الكافكاوي “ميكي وان” للمخرج آرثر بن. 

كان وارين بيتي متألقاً بكل تواضع بينما كان المديح ينهال عليه، وأخذ يتحدث عن المعركة القصيرة بينه وبين قسم وارنر الصحفي البريطاني حول مسألة العنوان. ففي بيان التقارير الاسبوعية للمقابلات التي تم إرسالها للنقاد تم تدوين “بوني وكلايد” على أنهما قاتلين. فمن الواضح أن الصحفيين ظنوا أن الناس سيعتقدون أن الفيلم يدور حول نهرين في اسكتلندا.

وقد صرح بيتي قائلاً “دعونا نطلق على الفيلم عنوان “بوني وكلايد ليسا نهرين”!

وخرج فائزاً في ذلك اليوم. وفي غضون أسابيع قليلة، فاقت شهرة “بوني وكلايد” آل كابون. وكُتِبت أغنية جورجي فام “الأغنية الشعبية لبوني وكلايد” بعد مشاهدة الفيلم وتصدرت القوائم، وأذيعت في التلفزيون بأداء كورس من الفتيات والفتيان الذين يتمنطقون بالأسلحة النارية في ملابس الثلاثينات. وبدأت صيحة سبيكيزي للحانات، ومظهر بوني باركر في الظهور على أغلفة مجلات الازياء.

وخلافاً لمسألة العنوان، لم يكن الموزعون البريطانيون على ثقة بهوية الجمهور المستهدف للفيلم. لذا أقدموا على نهج ذي شقين هو:

داخل لندن تم وضع ملصق دعائي للفيلم، عبارة عن صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود لعائلة بارو مشهرين الأسلحة بجانب سيارة من حقبة الثلاثينات مصحوبة بالنص التالي: “كلايد كان القائد، بوني تكتب الأشعار، سي. دبليو صاحب وشم الطائر الأزرق على صدره كان من معجبي ميرنا لوي، باك ذو المزحات السخيفة يحمل آلة تصوير كوداك، بلانش ابنة الواعظ تضع أصابعها لسد أذنيها أثناء المعركة المسلحة، وكانوا جميعا يلعبون الشطرنج ويلتقطون الصور لأنفسهم طوال الوقت، ويستمعون في الراديو ليلة السبت، الي إيدي كانتور، وإجمالاً قاموا بقتل ثمانية عشر شخصاً، فهم من أغرب العصابات التي سمعتم عنها على الإطلاق”!

أما خارج لندن فوجد ملصق دعائي آخر عبارة عن صورة فجة لبوني وكلايد يطلقان الرصاص من أسلحتهما مع تعليق يقول “إنهما يافعان، وعاشقان، ويقومان بقتل الناس. من أكثر أفلام العصابات إثارة”.

وكان أكثر ما أثار اهتمامنا في ذلك الوقت هو تحول المزاج العام في الفيلم من المهزلة إلى المأساة، من الرقابة الاجتماعية إلى العنف الصادم، خلال قيام عائلة بارو بالسطو على البنوك في الأنحاء الغربية الجنوبية لأمريكا الخاضعة للكساد العظيم في فترة الثلاثينات.

كان الفيلم قطعة أمريكية أصيلة مصنوعة بأسلوب الموجة الفرنسية الجديدة، وترجع هذه الأهمية لأنه من تأليف اثنين من هواة الأفلام: روبرت بنتون (الذي نشأ في تكساس البقعة المفضلة لدى بوني وكلايد)، وديفيد نيومان، الذي لم يسبق أن كتب فيلماً من قبل.

كان الاثنان محررين في جريدة “إسكواير”، أكثر مجلة ذات طابع هيبي وقتها. ويختص عملهما بالإتيان بآخر صيحات الموضة والألعاب الثقافية للقراء الأذكياء. وعلى سبيل المثال، ألعاب مثل ان أند أوت، وشيء يسمى المفهوم العاطفي الجديد، مقال عن حمقى علم الاجتماع، مقياس ماكلاندرز؛ طريقة للتقييم الذاتي مقارنة بالشخصيات العامة، والتي ابتكرها لهم جاي كي جالبريث تحت اسم مستعار مارك إيبرني.

“كالملايين أمثالكم” كتبا بعد ذلك “كنا نركب قمة الموجة الجديدة التي اجتاحت عقولنا، وأحاديث تروفو، غودارد، دي بوركا، أنطونيوني، برجمان، كوروساوا، فيلليني، وجميع الأسماء الأخرى التي كانت تردد كابتهالات في عام 1964، إلى جانب عملية إعادة الاكتشافات المذهلة للرواد العمالقة أمثال هيتشكوك، هوكس، فورد، ويلز وغيرهم. ثم قاما فيما بعد بضم المغمور حينذاك روبرت تاون إليهما كمستشار للنص السينمائي.

وقد عرضا النص على تروفو أولاً ثم جودار، الذي أعجب به كليهما ولكنهما تراجعا عنه لأسباب مختلفة. وهكذا عاد مقترضي الموجة الجديدة إلى هوليوود بخفي حنين وتوجها إلى شركة وارنر.

كان آرثر بن مخرجا ذا خلفية تلفزيونية ومسرحية، قام بإخراج مجموعة مميزة من الأفلام ولكن عديمة الشهرة، وكان يتمتع بسمعة وبحساسيته تجاه الممثلين.

أحاط بيتي نفسه بكل جرأة بمجموعة من الوجوه الجديدة. جين هاكمان لتأدية دور الأخ الكبير لكلايد، باك بارو المنفتح. كما ضم ايستيل بارسون في أول ظهور لها في هوليوود للعب دور زوجة باك العصبية، وغريب الأطوار مايكل جاي بولارد للقيام بدور سي. دبليو موس، سائق العصابة، وهو الدور الذي حقق له الشهرة. ومن قبلهم جميعاً فاي دوناوي للقيام بأول أدوارها، دور بوني باركر. فأصبحت نجمة في نفس اللحظة التي تطلعت فيها إلى كلايد- بيتي، الرجل الذي سينتشلها من أحياء دالاس الغربية إلى عالم العنف الرومانسي.

وأوكل بيتي مهمة تصميم الإنتاج إلى دين تافولاريس (الذي سيقوم فيما بعد بتصميم عالم ثلاثية الأب الروحي) وتصميم الملابس إلى تيودورا فان رانكل (التي سيزخر رصيد أعمالها بأفلام مثل بوليت، الأب الروحي الجزء الثاني، نيويورك.. نيويورك) في أول عمل لها.

عدا مدير التصوير المخضرم بورنيت جوفي وكان بالفعل ذا باع فني طويل.

لقد انتعش نمط أفلام العصابات كنمط رئيسي في أوائل الثلاثينات، فدخول الصوت جعل من صرير الإطارات، وضجيج معارك الأسلحة النارية، والحوارات المتشابكة أمراً ممكناً. ولكن تطبيق قوانين مكتب هايس للرقابة الفنية بعد عام 1934 كبح لجام المخرجين.

فقد صدر مرسوم يجعل البطل هو منفذ القانون (فتم تحويل جيمس كاغني من رجل عصابات إلى عميل مكتب المباحث الفيدرالي في فيلم “رجال- جي G-Men“، وتم منع الاحتفاء بأي زعيم عصابات مشهور في الأفلام.

ومع ذلك، في نهاية الخمسينات كان يوجد عدد من أفلام الجريمة ذات الميزانية المنخفضة عن مشاهير عالم الإجرام في فترة ما بين الحربين، منهم آل كابون، وقصة بوني باركر، وبيبي فايس نيلسون، فنشأ تياران، الأول تعامل مع الجريمة المنظمة بين محترفي المدينة من الخلفيات العرقية المختلفة في المنطقة المحظورة، بينما ركز التيار الثاني على المحتالين العشوائيين أصحاب الخلفيات الفقيرة جراء الكساد العظيم من ذوي البشرة البيضاء، ممن انجذبوا إلى أفلام هوليوود.

وبلغ هذان التيارين ذروتهما في عام 1967 تزامنا مع إطلاق فيلمي “مذبحة عيد القديس فلانتين” (فيلم روجر كورمان الوحيد من انتاج استديو كبير) وفيلم “بوني وكلايد” – فالأول كئيب وواقعي، أما الثاني فحالم وأسطوري.

واستمرا هذان التياران حتى يومنا هذا، باشتغال معظم المخرجين رواد مدرسة السبعينات في أحدهما أو الآخر- فيلم “لصوص مثلنا” إخراج روبرت ألتمان (عن رواية مستوحاة من الأحداث الحقيقية لحياة بوني وكلايد)، وفيلم سكورسيزي لفترة الثلاثينات “عربة القطار المغلقة بيرثا”، وفيلم “ديلينجر” إخراج جون ميليوس، ومن ناحية أخرى ثلاثية “الأب الروحي” لكوبولا، و”غير القابلين للمس” و”الوجه ذو الندبة” لبريان دي بالما.

كان من الواضح للعديد من الناس ان فيلم “بوني وكلايد” يمثل روح العصر، يعكس روح أمريكا المنهكة في حرب مستحيلة في فيتنام، والاضطرابات في أحياء السود، مظاهرات في المدن الجامعية، حرق بطاقات التجنيد الاجباري، وهروب المجندين إلى كندا. الأمل الذي قضى نحبه مع اغتيال كينيدي تردد صداه في لقطة مرور سيارة عصابة بارو بجانب ملصقات روزفلت المهترئة التي تعلن عن “سياسته الجديدة” للخروج من الأزمة الاقتصادية.

كان وقت تعمه الاضطرابات والعنف، وأتى العام الذي يليه اغتيال مارتن لوثر كينج وروبرت كينيدي، وأحداث المؤتمر الديمقراطي المضطربة. وهذا يعود بنا بكل تأكيد إلى الجدل النابع من رحم فيلم “بوني وكلايد”، بخصوص تمجيده للعنف ومرتكبيه.

في الرابع عشر من أغسطس وجه الناقد الشهير بوسلي كروذر في مجلة “نيويورك تايمز” نقداً لاذعاً للفيلم وهاجم التمثيل والإخراج والنص السينمائي بقوله: “هذا الخلط بين المهزلة وعمليات القتل الوحشية، عبثي بقدر افتقاره للذوق، مما لا يجعله صالحا للتعليق الساخر على الواقع المعاد صياغته. الأمر الذي قد يترك الناقد في دهشة متسائلاً عن مرام كل من السيدين آرثر بن ووارين بيتي من وراء هذا الهراء العتيق، الانفعالي الغريب”.

واختتم مقاله ممتعضاً “هذا هو الفيلم الذي افتتح به مهرجان “مونتريال السينمائي الدولي” مكرراً نفس الحادث الذي وقع قبل اثنتي عشرة سنة عندما تدخلت السفيرة الأمريكية في إيطاليا كلير بوث لوك، لمنع عرض فيلم ب”لاكبورد جانجل” Blackboard Jungle  في مسابقة مهرجان فينسيا السينمائي.

لم يكن كروذر الوحيد، فمن بين كثيرين، نبذ أحد النقاد المجهولين لدى جريدة “التايم” الفيلم دون أدنى اعتبار، ناعتاً إياه بـ “مزيج غريب ومنعدم الهدف للحقيقة والهراء، يتأرجح على حافة المهزلة”.

أما الناقدة بولين كيل، ذات الثمانية والأربعين عاماً، القادمة من سان فرانسيسكو إلى نيويورك فقد كتبت مقالا طويلا تمتدح الفيلم رفضت جريدة “نيو ريباليك” نشره بدعوى حماسته المفرطة. ولكنه نشر في جريدة “ذي نيويوركر”. وأصبحت كيل هي الناقدة المعتمدة للجريدة طوال أربعة وعشرين عاماً، مغيرةً بذلك وجه النقد السينمائي ونهج الجريدة تجاه السينما. وقد تركت المجلة في منتصف السبعينات لتعمل مستشارة للنصوص السينمائية لدى وارين بيتي في شركة بارامونت، ولكنها عادت للجريدة مرة أخرى بعد أشهر قليلة.

وعلى نفس درجة أهمية مقال بولين كيل، ظهر رد مجلة التايم لعدد ديسمبر، مصحوباً برسم تصويري مخصوص لبوني وكلايد، بريشة روبيرت راوستشينبيرج على الغلاف، وبقلم ستيفان كانفر واصفاً الفيلم بأنه فيلم العام.

كان نموذج إطلاق النار الذي أتخذه بيتي كمثال، مقتبسا من فيلم “شاين”Shane  إخراج جورج ستيفنز، حين يطلق حامل السلاح الشرير في الفيلم جاك بالانس، الرصاص على البائس اليجاه كوك الابن ويلقيه في الوحل خارج حانة البلدة. وبتكرار هذا المشهد بأثر مضاعف، جازف فيلم “بوني وكلايد” برفع موضوع العنف على الشاشة عالياً بين ليلة وضحاها.

وباتت التجاوزات العديدة للفيلم ممكنةً بعد تنصيب المستشار السابق للرئيس جونسون جاك فالنتي في العام السابق إلى منصب الرئيس الجديد لاتحاد المنتجين السينمائيين في أمريكا. وقد قام على الفور باستبدال قوانين الرقابة القديمة على الإنتاج بنظام شهادات التصنيف.

لكن إذا كان فيلم “بوني وكلايد” أتي بسينما الفن الأوروبي إلى مجرى تيار السينما السائد في هوليوود (حيث ألهم الآن رينيه فيلم “بوينت بلانك” الذي ظهر في الشهور اللاحقة)، فقد بدأ بفتح الأبواب على مصراعيها أمام الأشكال المختلفة للعنف بدءاً من الأخلاقيات الثابتة إلى المنعدمة.

آرثر بن مخرج الفيلم

لم يكن المخرج سام بكنباه –له باع طويل من قبل في مجال أفلام العنف المفرط – إلا أنه استفاد من المشهد الأخير بالحركة البطئية في “بوني وكلايد” (الذي اقتبس بدوره من أفلام كوراساو) واستخدمه في فيلم “الصحبة المتوحشة”، ثم استخدم نفس التقنية بعد ذلك في فيلم “كلاب القش”، ثم زهر في “البرتقالة الآلية” لكوبريك، و”هاري القذر” لدون سيجل. وجعل هؤلاء من عنف الشاشة موضوعا طويلا للنقاش على الساحة العالمية ظل قائما لأعوام طويلة وصولاً إلى فيلم تارانتينو “كلاب المستودع” Reservoir Dogs وما تلاه من أفلام بعد ذلك.

وفق مقال متمعن بمناسبة ذكرى “بوني وكلايد”، أظهر الناقد السينمائي إيه. أوه سكوت تعاطفه مع أسلافه المشهورين عندما قال:

أصبحنا معتادين على مشاهدة عمليات إلحاق الاذى والألم بكل أريحية، بل والضحك عليها”، كما كتب “لا تسيئوا فهمي، لازلت أستمتع بمشاهدة “بوني وكلايد” وأنا أشعر بقدر من الانزعاج، وشعور بالارتياب من ان بوسلي كروذر كان محقاً في بعض الأمور الهامة والتي أصبح من السهل جداً غض الطرف عنها.”

وعلى الجانب الأخر ولغرابة الأمر كان لفيلم “بوني وكلايد” أثر طيب في إدخال النزعة التجريبية الأوروبية لعامة الأمريكيين.

وللحفاظ على أنفسهم في الحالة النفسية الملائمة، استمع كل من بيتون ونيومان أثناء تأليفهما للنص السينمائي للفيلم الى الاغاني الريفية لليستر فلات وموسيقى بلو غراس لإيرل سكرجز، (انهيار الجبل الضبابي) فقررا في نهاية الأمر استخدامها كلها في الفيلم.

وتم تقليد هذا الأمر بشكل واسع، بظهور موسيقى جوني كاش (اغنية سائر على الخط) في فيلم I Walk the Line لجون فرانكهايمر، وفي فيلم “فوس الصغير” و”بيج هالسي” لسيدني فيوري، ونالت تامي وينيت شهرة عالمية من خلال أغانيها في فيلم “خمس مقطوعات سهلة” إخراج بوب رافلسون. وهكذا تم تقديم الموسيقى الريفية إلى طبقة المثقفين العليا. ووصل هذا الأمر ذروته في سلسلة الاحتفالات بالذكرى المئوية الثانية لتأسيس الولايات المتحدة في فيلم “ناشفيل” إخراج التمان، حيث أصبح موطن الموسيقى الريفية والذين يؤدونها، رمزا لأمريكا نفسها.

عن جريدة “الأوبزرفر”- 26 أغسطس 2007

Visited 147 times, 1 visit(s) today