بنيوية الفيلم الشاهيني بين لذة النظر والتلصصية على الرجل

Print Friendly, PDF & Email

مقدمة

في ورقة “لورا ميلفي” البحثية الأكثر شهرة بعنوان “المتعة البصرية والسينما السردية”، استنتجت ميلفي أن السينما لن تتحرر إلا بتخلصها من نظام المتعة المتلصصة كأساس للفيلم السردي. خرجت هذه الورقة للنور في سبعينيات القرن الماضي لتحدث ضجة على الصعيد النقدي والنسوي بشكل عام.

تحدثت ميلفي عن التلصص والبطريركية في الصناعة السينمائية، فالمرأة دوماً مستخدمة من قبل المخرجين الذكور، مفعول بها في أفلامهم، فالمرأة القوية المحاربة موصوفة بصرياً من وجهة نظر الرجل، والمرأة المسكينة المعذبة هي أيضاً تلك المرأة بالنسبة للرجل، والمرأة العاهرة هي أيضاً ما يراها الرجل، حتى في طريقة التصوير، بالتركيز على مواطئ معينة في جسد المرأة، يمكننا أن نرى الكيفية التي يراها بها الرجل، وكيف يريدنا – معشر المشاهدين- أن نراها معه.

في فيلم مثل “غيبوبة Coma” للمخرج الأمريكي مايكل كرايتون، نرى الطبيبة عارية تحت الدش في مواجهة حبيبها بكامل ملابسه، قد لا نرى مشهدا مثل هذا بالنسبة لرجل مثلاً، خاصة لو كان موضوع الفيلم لا يحتمل أن يتجرد الأبطال من ملابسهم، لكن المرأة تخلع ملابسها بسبب أو بدون سبب، فقط لأنها “هناك”، تم ترشيحها من خلال عدسة ذكورية تراقبها دون إفشاء ذلك بصورة صريحة. وفي فيلم “بلايد رانر” Blade Runner لريدلي سكوت، تركض امرأة شريرة في ملابسها الداخلية، بينما تتابعها الكاميرا بالتصوير البطيء، مصورة مشهد مقتلها ببطء تام، وهي شبه عارية، مما يعطي المشاهد متعة تلصصية في مراقبة امرأة جميلة مثيرة، تموت وهي عارية. هذه المرأة هددت الذكر الرئيسي في الفيلم ومثلت خطراً للمشاهد الذكر، لهذا تمت معاقبتها وبقسوة، فتخلَّص المشاهد الذكر حامل النظرة الذكورية The male gaze، من خوفه منها، وعادت ثانية إلى مكانها الطبيعي، في منطقة الأمان بالنسبة له. في الوقت الذي كانت فيه هذه الرؤى تتم مناقشتها وتفنيدها بدقة، انتقد كثير من النقاد لورا ميلفي لإغفالها النظرة الكويرية queer gaze للرجل أو للمرأة على الشاشة، والتي ستختلف قطعاً عن الرؤية مغايرة الجنس لتمثيل الرجل على الشاشة.

في هذه الدراسة، نحاول اكتشاف مدى التغيُّر الذي طرأ على السينما والشاشة، عن طريق تجربة عظيمة لرجل مصري تمرد على قوانين الرجولة على الشاشة بأكثر من صورة، وأحدث تغييراً شكلانياً وموضوعياً في تمثيل الرجل على الشاشة منها.

تجربة يوسف شاهين السينمائية عظيمة وثورية، تكمن عظمتها في أكثر من موضع، بدءاً بالفنيات وآليات صناعة الفيلم السينمائي ذاتها، وانتهاء بالتمرد في تمثيل الذكورة والجنسانية على الشاشة، مروراً بالسرد السينمائي ذاته، والذي اتخذ أكثر من شكل، من الكلاسيكي للتجريبي الرمزي. لكنه وببراعة، استطاع تضمين نظرة متمردة على السائد، ناعمة في كونها تمر من تحت أنف الرقباء والمحافظين، وإن كانت تمثل منجماً لمحبي البحث والتنقيب عن الرمزية والاستعارة المكنية في التعبير عن رؤى ذاتية للعالم المحيط به.

شاهين والنظرة المضادة للبطريركية

يوسف شاهين هو ملك الخط الإيروسي المثلي (الإيرو- مثلي) الضمني homoeroticsubtext في معظم أعماله، إن لم يكن مجملها. مشروعه السينمائي والذي تمثل فيه الكويرية queernes والفيتيشية هاجساً انسانياً وفنياً، يتجلى فيه بوضوح تجسيد الرجل على الشاشة بصورة مغايرة للنظرة البطريركية التي عبرت ميلفي عنها باستياء في ورقتها البحثية منذ أكثر من 40 سنة.

يُعد الكوير queer مصطلح شديد الالتباس على الكثيرين خاصة في العالم العربي، فهو أشمل وأعم من السحاقية أو المثلية lesbianism and homosexualit وهو يشمل أي هوية جنسية تختلف عن الهوية الجنسية السائدة أي heterosexual. ويضم الكوير ازدواج الجنس bisexuality، والجنس السادومازوخي sadomasochism، والسحاقية Lesbianism، والمثلية homosexualityوالتحول الجنسي transsexuality. الكويرية هي الجنسانية غير السائدة non-normative sexuality، وفي كتابه “المشروع القومي العربي في سينما يوسف شاهين” يتحدث دكتور مالك خوري في الفصل الثامن عن تصوير الكويرية في السينما العربية– خاصة سينما ما بعد الاستعمار- بشكل عام، وفي سينما يوسف شاهين بشكل خاص، من خلال هواجس شاهين الداخلية ثنائية الجنس وتمثيله لهذه الهواجس في إسقاط واضح على نفسه، وبجرأة عظيمة في مجال سينما الاستبطان.

في كتابها “مشاهدون منحرفون: ممارسات نظريات تلقي الأفلام”، تتحدث الباحثة والناقدة جانيت ستايجر عن انعدام الإرادة الحرة لأي مشاهد، فالمشاهدة مبنية على ترسيبات اجتماعية ضمنية، وهوية تم بناءها من قبل المشاهد عبر أكثر من عامل أهمها العامل التاريخي. هذه العوامل تشرح اتجاه المشاهد لتأويل فيلم ما أو مشهد ما، مما ينعكس على رد فعله واستجابته لمحتوى الفيلم بطريقة أو بأخرى.

ولأن الترسيبات التاريخية الضمنية تتشكل بطريقة متناقضة ولا متجانسة ما بين مشاهد وآخر، ليست هناك قراءة لفيلم موحَّدة مهما تقاربت الرؤى. لهذا ربما يختلف تلقي المشاهد العربي لأفلام شاهين عن المشاهد الغربي. ولهذا قد يتعذر على المشاهد غير المدقق، الالتفات لتأويلية البطل الذكر من منظور شاهين كمخرج، لكن بالطبع لن يفوته الفيتيشية التي يتعامل بها مع البطلة الأنثى، لأن الوعي الجماعي العربي اعتاد على تلقي تمثيل المرأة سينمائياً وفنياً بطريقة جنسانية صريحة، بينما الرجل عادةً لا يُعامل كأداة جنسية، ولا حتى أكثر الرجال وسامة على مر تاريخ السينما المصرية من رشدي أباظة لأحمد عز.

من فيلم “باب الحديد”

نعم يوسف شاهين مفتون بأجساد النساء، وتمثيله للمرأة على الشاشة قد لا يفرق عن الكثير من المخرجين الرجال الذكوريين، في فيلم تبدو فكرته الأساسية “الهوس الجنسي” والتعبير النفسي والسيكولوجي عنه بصورة فنية ذهنية عظيمة، مثل “باب الحديد”، يحتل جسد هند رستم الشاشة، بصورة تدفع المشاهد للاستثارة بكتلة النار المتحركة أمامه، يستحث شاهين عجز المشاهد في الوصول لهذا الجسد، عن طريق مشاطرته العجز في عرج البطل قناوي، بل وهو يستنفر مشاعر الذكر العادي، والذي يشعر بالحسرة حتماً، كونه ليس البطل فريد شوقي، والذي من الطبيعي أن يفوز هو بهنومة في النهاية، فالانتصار في السينما الكلاسيكية دوماً للكمال الشكلي والأخلاقي.

لكن الرؤيا في فيلم مثل “صراع في الوادي”، تتضح بصورة أكبر في المشهد الأيقوني الذي يجمع بين فاتن حمامة وعمر الشريف. فستان فاتن مكشوف إلى حد ما، وعمر عاري الجذع، يبدو شبابه وجماله شديد التوهج مقارنة بتلك المرأة الجميلة إلى جانبه، لكن ما يدفعنا لتحليل ذلك المشهد من زاوية الإيرو- مثلية الضمنية، هي فيما وراء المشهد ذاته، والذي دفع الممثلة في الحقيقة لتقبيل الممثل ولأول مرة في تاريخها الفني. تدخلت نظرة شاهين لعمر الشريف كجسد ووجه جميل، والتي ربما دخلت في إطار التشييء إلى حد ما، عن طريق ملابسه الممزقة، الجرح في صدره، والطريقة التي تقبله بها حبيبته، وهو على فراش المرض يهذى، وقد أصابه الوهن الجسدي والنفسي، لتدفع الممثلة إلى الإقدام على قرار يتجاوز البعد الرابع للفن، كاسراً حاجز الوهم إلى حيز الواقع.

هذه الفيتيشية في رؤية البطل الذكر، ومقارنته في صراع القوة بالذكر القوي المثالي للنمط الذكوري المغاير للجنس alpha straight maleوالمتمثل في قطبي الخير والشر (حمدي غيث وفريد شوقي)، يبدو فيه تحيز شاهين وبشكل واضح للبطل الأضعف، والأجمل، للبطل الذي يسمح لعواطفه بالظهور والانكسار. وهو البطل أيضاً، الذي لن يتماهى معه المشاهد الذكر، فهو الأضعف، والأقل ذكورة، الأكثر “أنوثة” منه للفحولة الذكورية والتي كانت حكراً على أبطال بعينهم فيما مضى.

لو قارنا فيلم مثل “صراع في الوادي” بفيلم آخر يظهر فيه عمر الشريف أيضاً بنفس الحالة  وعنوانه “لوعة الحب” للمخرج صلاح أبو سيف –شديد الذكورية في التعامل مع الشخصيات النسائية، وإن لم يقلل هذا من براعته الإخراجية- في مقابل ذكر الألفا المتماثل مع المشاهد الذكر والذي يؤدي دوره أحمد مظهر، وهو اختيار شديد الغرابة والخصوصية، كون مظهر اعتاد دوماً الظهور في دور الجنتلمان شديد المثالية في “ليلة الزفاف”، أو الفارس المكتمل، اللامجنسن كما في حالة “الناصر صلاح الدين” مثلاً.

من فيلم “صراع في الوادي”

هو هنا دور شديد الجنسنة، ذكر مقزز منفر، عشوائي وسوقي، متزوج من امرأة رقيقة تقوم بدورها شادية، ويمثل مثلث الحب صراعاً ما بين الرجل الناعم الرقيق القائم بدوره عمر الشريف، والذكر القوي المتمثل في أحمد مظهر. لكن صلاح أبو سيف يدرك جيداً مدى المخاطرة المجتمعية، في الانتصار للذكر الناعم الأدنى ذكورية، وهو بهذا يخرج المشاهد الذكر من دائرة الأمان التي صنعها لنفسه بالتلصص على ذكر آخر، ربما أكثر منه سوءاً وهو محمود “أحمد مظهر”، لكنه يشجعه سراً ويتمنى في قرارة نفسه ألا تفشل هذه الزيجة، خاصة وأن الزوجة هي الواقعة في رأس المثلث بينما يشكل الرجلان قاعدته.

أي أن الحكاية محورها امرأة، لكن المحرك الرئيسي لها الرجل، فبقرار من الرجل تنتهي علاقة حسن “عمر الشريف” وآمال “شادية”، حفاظاً على الشكل الاجتماعي والأسرة، وبقرار من محمود “أحمد مظهر”، والذي يقرر الفيلم أن يجعله يتحسن، تبقى الزوجة إلى جانب زوجها، ويحاول الفيلم استمالة تعاطف الجمهور، بأن يجعل محمود يتحسن عندما تحمل زوجته، ويجعلنا نتغاضى عن قرابة الساعة ونصف من الذكورية في أقبح صورها السلطوية والقمعية.

في فيلم “حدوتة مصرية”، تتجلى قدرة يوسف شاهين على استخدام مفهوم الـ homoerotic subtext لصالحه تماماً، عن طريق شخصية مهدي والتي جرى تشبيهها على أنها أنا آخر تحرَّر من عباءة السرد، ليتخذ شكل واقع في بنية الفيلم ذاتها. لكن المدقق في النظر، سيجد أن مهدي قد يمثل علاقة كونديرية – نسبة إلى الكاتب التشيكي ميلان كونديرا- في خلفية السرد، تبدو لمحات شاعرية من مدى اتصالها بيحيى من وقت لآخر، في مشهد السجن، من وراء القضبان نكاد نرى التوتر الجنسي sexual tensionحاضر بينهما، بل إن القضبان أمام وجه يحيى تبدو أكثر قسوة من تلك التي يقف وراءها مهدي، في دلالة ربما لشعور يحيى بالأسر في هذه العلاقة العاطفية، أو ربما هو أسير هوى مهدي حبيس الجدران. وفي مشهد شديد الحميمية، يحلق يحيى لمهدي ذقنه، في لقطات قريبة متوسطة لكل منهما، بينما يتحادثان عن علاقة يحيى بالآخرين، وبمهدي نفسه. وفجأة يسأل مهدي يحيى، “تيجي نعمل فيلم ونقول وتقول؟” فيشخر يحيى ويجيب، “ومنين أجيب الجرأة دي؟”

يمكن تأويل الحوار بأي شكل، لكن أحد التأويلات شديدة الشيوع، تقصد حقيقة يحيى الكوير أي المختلف عن النمط الجنسي المتعارف عليه، وحقيقة العلاقة بينه وبين مهدي. في مشهد آخر، بعد حفلة لأم كلثوم، بدا فيها التأثر الحسيّ لكل الشخصيات بصوت “الست” بينما هي تغني “أنت عمري”، يسأل صديقهما المشترك إن كان يحيى يستطيع الحكيّ عن مهدي، فيعترض مهدي بأن يحيى يخاف، لذا لن يبوح بشيء. عم يتكلم الجميع؟

كسر شاهين أيضاً ميزان القوة على الشاشة، عن طريق أفيونته السينمائية محسن محيي الدين، والذي جسد الأنا المضاد له alter ego أي يحيى شكري مراد في فيلمين من ثلاثية الإسكندرية “إسكندرية ليه؟” و”حدوتة مصرية”. وفي الأخير، تحديداً مشهد غواية زوجة الطبيب ليحيى بعد أن أثار الشغب في مظاهرة ضد الإنجليز، ووقوفه عاري الجذع أمامها بينما هي تتفحصه، ومن ورائها بالطبع المشاهدين؛ رجال مثليون ونساء.

هذه المرأة الجميلة لم تكن إلا البوابة التي عن طريقها قدم شاهين بطله على الشاشة، بأن جعل من جسده الصبيّ الفيتيش نفسه، مقارنة بمشاهد في أفلام أخرى يقوم فيها الرجل بالتعري المحسوب، لاستنفار عضلاته، أو كنوع من استعراض القوة أمام المرأة التي ستشاطره المشهد. التصوير الفيتيشي للرجال تم أيضاً في الرقصات التعبيرية التي تزخر بها أفلام شاهين، والتي يقوم في مجملها الرجال بالاستعراض، على وجه الخصوص عمرو عندما رقص على أنغام “فات الميعاد” لأم كلثوم بعد ألمه من عدم فوزه بالجائزة، أو عُكّا عندما استلهم جين كيلي في أغنيته “حدوتة حتتنا”.

من فيلم “فجر يوم جديد”

هيام شاهين بالجمال الذكوري بدا واضحاً عند استيعابه للاستعراض الرجالي على حساب النساء الجميلات واللاتي لم تخلُ منهن أفلامه، كما لم تخلُ أيضاً من تمثيل نسائي عظيم، لا يخضع للمعايير التجارية الاستهلاكية في كثير من الأحيان، وبينما بدا واضحاً أن ملهميه من الذكور لهم ملامح وصفات شكلية متقاربة –شباب صغار السن، ناحلون، سود الشعر والعينين، يملكون في معظم الوقت حساسية شعورية واضحة وقدرة على الاستعراض- تنوعت بطلاته وشخصياته النسائية البارزة ما بين يسرا ومحسنة توفيق ورجاء حسين وسناء جميل وسعاد حسني وفاتن حمامة وحنان ترك حتى لطيفة ونبيلة عبيد.

عندما تحدثت ميلفي عن الإمكانية التي يمكن بها لمخرج إلغاء وجه امرأة والتركيز على جسدها، كنوع من التشييء الصريح لها، يماثله ربما عند شاهين، تلك اللقطة الساحرة من “حدوتة مصرية”، لوجه المرأة القوية وجسد الفتى الصغير الذي ترغب فيه. نرى جسد يحيى من الوراء، عارياً، وقد تم اقتطاع وجهه من اللقطة، بينما وجه المرأة الأكبر سناً –وقطعاً خبرة جنسية- في مواجهتنا بلقطة مقربة لوجهها، عيناها تلتهمانه وهي تتغزل فيه تأهباً لمضاجعته.

في مقال بعنوان “كيف تحيل أدمغتنا النساء إلى أشياء” في مجلة Scientific American، أشار كاتب المقال إلى أن دراسة على مجموعتين من الرجال، الأولى تم عرض صور لأجساد نساء بعد أن تم قص أدمغتهن عليها، في مقابل الثانية التي شاهدت صورا لرؤوس النساء دون أجسادهن، أطلق الرجال على المجموعة الأولى أحكاما سلبية على النساء كونهن أقل ذكاء، أقل طموحاً، وحتى أقل ظرفاً أو قابلية لأن يحبهن الرجال. هل يختلف الأمر بالنسبة لعرض صور رجال بعد حذف الرؤوس منها؟ طبقاً لتدوينة بعنوان  Male Bodies and Objectification للمحررة والمدونة الأمريكية سالي ماكجرو، فالتشييء هو التشييء، ووصف أجساد الرجال الجميلة والشهوانية على شبكات نشر الصور الاجتماعية مثل Pinterestبالحلوى الذكورية male candyما هو إلا تمييز جنسي معكوس، بل ويزيد من عمق أزمة النظرة الدونية الميزوجينية للمرأة، وتشييئها كجسد.

في أكثر من موضع، تبدو شخصيات يوسف شاهين الرجولية، عارية الجذع، دون مبرر درامي، فقط محاولة لاستعراض الأجساد الجميلة من نظره، في مشاهد مشحونة جنسياً وجمالياً، تصبغ هالة على هذا البطل. هناك مثلا مشهد الجندي الذي خطفه خال يحيى المثلي في “إسكندرية ليه؟” وهو بملابسه الداخلية في فراش الخال، ومشهد الحمام العمومي في “المصير” بينما يلهو عبد الله محمود وهاني سلامة، يبدو فيه بوضوح الجانب الحسي الذي قد يصل للإيروسية، إذ يقفز هاني سلامة على عبد الله محمود، مكمماً فمه، ويتخذان وضعية شكلانية أشبه بالجماع، مستخدماً عناصر BDSM مثل الـ bondage مثلاً، وهي منطقة غير مطروقة تقريباً في السينما العربية، إلا على استحياء، بالصورة التقليدية للمرأة المقيدة في أوضاع إيروسية من أجل التماثل والمتعة البصرية للمشاهدين الذكور، أو بصورة كوميدية لا تحمل في طياتها أي جنسانية.

أما في فيلم “المهاجر” فتتجلى فكرة اختيار شاهين لموضوعه الشائك، وقصة مستوحاة من قصة النبي يوسف في الأديان الإبراهيمية، مشحونة بالجنسانية، عن الغواية، والشبق، والجمال “الذكوري” من خلال يوسف نفسه. قدمه شاهين باسم رام، واستخدم في تصويره كل التقنيات التي تعزز للفيتيشية، إما في مشاهد الـ bondage، بينما هو مقيد في قاع المركب حيث ألقى به إخوته، وفي المشهد الذي يتعرف على الكاهنة سمهيت بعد أن وصل مصر، نجد، واللقطات شديدة القرب لعنقه، وخصره وقدميه، فيتيشية تصل لدرجة الهيام بالجسد الذكوري، في مقابل نظرات امرأة متفحصة. لن نكذب إذا قلنا أن تعامل شاهين مع شخصياته الرجولية لا يقل جنسانية عن تعامله مع شخصياته النسائية، وأحياناً يتفوق عليها، من حيث زوايا التصوير ووضع الكاميرا. تحدثت ميلفي عن خوف الرجل “مغاير الجنس” من المرأة، ومحاولة الرجل من وراء الكاميرا، كسر ذلك الخوف عند المشاهد الذكر بتشييء هذه المرأة وجنسنتها إلى أقصى حد، أو تهميشها وإظهارها بالمظهر الملائكي إلى أقصى حد. وتحدثت حتى عن الفيتيشية في تصوير متعلقات المرأة، من جوارب طويلة، وملابس مثيرة، الطريقة التي تصور بها امرأة تمسك بسيجارة، والقبعات الضخمة والنظارات السوداء.

من فيلم “المهاجر”

لكن يوسف شاهين استخدم هذه الفيتيشية في تصويره للرجل، من خلال تفاصيل صغيرة. في فيلم “المهاجر” مثلاً، كان تجنيس سمهيت نداً بند لتجنيس رام؛ حتى في الاكسسوار، في المشهد الأيقوني الذي ترقص فيه وهي تتخيل أنها تغوي رام، يتم دهان رام باللون الأسمر كما تتجلى قلادته الذهبية، في مقابل القلادات التي حاولت هي التحرر منها في مشهد سابق. في أحد المشاهد الأكثر أيقونية من فيلم “الإصبع الذهبي” عام 1964، وهو الفيلم الثالث من سلسلة جيمس بوند، ببطولة شون كونري، يفقد جيمس بوند الوعي إثر ضربة من مجهول، ويفيق ليجد الفتاة الشقراء المثيرة إلى جانبه، وقد طلي جسدها بالذهب تماماً. أثار المشهد إعجاب الكثيرين وقتها، حتى أن الممثلة ظهرت على غلاف مجلة لايف الأمريكية الشهيرة مطلية بالذهب بالكامل. لا داعي لذكر كيف يثير هذا المشهد حفيظة الناقدات الفيمينست (من  التحرر النسوي)، كونه تسطيحا وإهانة للجسد الأنثوي، من أجل استثارة حامل النظرة الذكر. وبمقارنة هذا المشهد، بالمشهد الذي يظهر فيه العبد رام وقد طلي بالأسود، من أجل شهوة الكاهنة سمهيت، يظهر شاهين حاملة النظرة امرأة، وقد تم العبث بهذا الجسد الذكوري، لأجل خاطر متعتها التلصصية الأنثوية.

بل أن شاهين يذهب أبعد من هذا عندما يعامل أبطاله الرجال المجنسنين على الشاشة نفس معاملة المرأة في التصوير، فميلفي تذكر كيف يتم عزل أجزاء من جسد المرأة مع التركيز على الساقين أو القدمين أو اليدين فقط، في نوع من الفيتيشية وإنكار الآدمية لها. لكن هذا هو ما يفعله شاهين تماماً مع يحيى في “حدوتة مصرية”، حيث يظهر ظهره العاري في مواجهة ملامح زوجة الطبيب بالكامل، أما رام في “المهاجر” فتظهر يده فقط في مقابل وجه الكاهنة بينما هي تقبلها باشتهاء. تصوير الرجل على هيئة “أجزاء” على الشاشة، ينفي عن شاهين تهمة الذكورية تماماً، صحيح هو يعتمد على متعة التلصص الفيتيشية، لكنه يساوي بين تلك المتعة للنساء والرجال سوياً، وإن كانت فيتيشيته للرجال تتفوق أحياناً، خاصة في العقدة الأوديبية التي تتمثل في أكثر من علاقات نسائية /رجولية من أفلامه، ليست فقط عندما تكون العلاقة هي محور الفيلم كما في “فجر يوم جديد” لكن في المهاجر، أو حدوتة مصرية، تقع العلاقة الأوديبية موقعا متميزا من مسار السرد في الفيلم، وعلى عكس أفلام صلاح أبو سيف، التي تنتقم دوماً من نموذج المرأة القاتلة الخطرة femme fatale، سواء بالقتل أو النبذ والإدانة المجتمعية، فإن شاهين لا يقف كثيراً أمام مصائر أبطاله، بقدر ما يحاول الانتصار للحب، حتى لو عن طريق الذكرى كما في حالة خال يحيى في “حدوتة مصرية” الذي يزور مقابر العلمين بعد أن يُقتل حبيبه الإنجليزي في الحرب.

كل هذه كانت محاولات شاهينية جريئة لكسر تابو تصوير الرجل على الشاشة، والعلاقات الرجولية الحسية والإيروسية والتي أرادها هو ملتبسة، بالتلميح دون أي مباشرة أو فجاجة، فحتى يومنا هذا لا نجد انتقادات ليوسف شاهين على كثرة استخدامه للشخصيات المثلية بصورة زاعقة، وإنما على استحياء، وكأنما يشعر المتحفظون بالحيرة، وعدم القدرة على نقده بالصورة التي كانوا يتمنون. أو أنها حيرة وخوف شاهين نفسيهما، من التعبير عن نفسه في مجتمع أقصى ما يستطيع المرء أن يفعله فيه هو التلميح.

في مقال بعنوان “فقط لأنه الأستاذ” يتحدث المؤلف د. أحمد خالد توفيق عن مآخذه على أفلام يوسف شاهين المؤلف auteurوليس المخرج:

” إلام يفضي المسار الفكري لفيلم (المهاجر) ؟.. رؤية مختلة لقصة سيدنا يوسف مع تنويه واضح إلى أن (الأرض لمن يستطيع أن يزرعها) ولا أعرف إلام يفضي بنا هذا ؟.. ماذا عن الرسالة المضطربة في (وداعاً بونابرت) حول أن العلاقة المثلية بين جنرال فرنسي وشاب مصري هي الطريق الوحيد إلى امتزاج الحضارات والسلام؟ حل مشكلة التطرف في (المصير) هو أن نرقص أكثر.

أما عن الجانب الأخلاقي للأفلام فهناك ميزانان في الرقابة .. ميزان للعامة وميزان لشاهين.. هكذا تصفح الرقابة في تسامح أسطوري عن علاقات الحب المثلية التي لا يخلو منها فيلم من أفلامه تقريباً، ولعله تملق لتيار العولمة، وأراهن أنه يفتخر في مناقشاته الخاصة في الغرب بأنه أول من تجاسر على تقديم علاقات كهذه لمجتمع متخلف. تصفح الرقابة عن العلاقات الأسرية المختلة في كل فيلم..عن الاشتهاء الواضح من الأم لابنها في (الآخر)، وتصفح عن اشتهاء الأخت (صفية العمري) لأخيها في (المهاجر)..حتى زوجة الفيلسوف (ابن رشد) لم يرحمها.. إننا نرى في عينيها اشتهاء كاملاً للفتى الفرنسي الذي جاء يتتلمذ على يد زوجها. وتصفح عن مشاهد كاملة في (إسكندرية نيويورك) لو قدمها سواه لعلقوه مشنوقاً في ميدان (طلعت حرب).. ما معنى هذا ؟ نظارة هيبة العبقرية وضعت على عين الرقيب فلم يعد يرى.. لماذا ؟ لأنه يتعامل مع الأستاذ”.

ربما يُعَّد هذا من أفضل ما كتب في مهاجمة يوسف شاهين، فقط لينقلب في صالحه، فيوسف شاهين الرافض للبطريركية المحافظة، هو يوسف شاهين الذي يجب أن تحتفي به القراءات النسوية أكثر، صحيح أنه تقريباً لم يحاول تمثيل علاقات سحاقية في أفلامه، لكنه عن طريق تمثيل الأوديبية والمثلية الجنسية وتكسير صورة الرجل الراديكالية على الشاشة، تحدى كل هؤلاء وعبر عما يريده، فقط بطريقة مخنوقة مكبلة لأنه في مجتمع لم يصفح قط عن كونه متمرداً مجنوناً.

ربما يكون التأليه ليوسف شاهين بصفته رمزا وطنيا وأهم من وصل للعالمية من مخرجينا أضر به أكثر مما نفعه، والدليل تراجع مستوى أفلامه الأخيرة بشكل واضح عن أفلامه الأولى، لكن النقطة التي يجب وضعها في الحسبان لشاهين، كونه مبدعاً أبعد ما يكون عن التقليدية. كان شاهين مبدعاً ذاتياً للغاية، ولولا ذاتيته لما استطعنا رؤية رجال من منظور نساء يشتهينهن حتى ولو عن طريق علاقات ملتبسة أوديبية في أفلام مثل “المهاجر”، “الآخر”، “حدوتة مصرية”، “فجر يوم جديد”، أو حتى بطريقة غير مباشرة عن طريق تشييء الرجل على الشاشة، وتصويره بطريقة أقرب ما تكون لطريقة تصوير المرأة.

المراجع:

“How Our Brains Turn Women Into Objects: There is, it turns out, more than one kind of “objectification” -By Piercarlo Valdesolo on October 11, 2011”

“Bond Girl: Re-Watching and Re-Evaluating Goldfinger -By Zina Hutton, April 20th, 2015”

“المشروع القومي العربي في سينما يوسف شاهين – تأليف مالك خوري، 2010- ترجمة وتقديم: حسين بيومي، المركز القومي للترجمة”

“Male Bodies and Objectification –By Sally McGraw”

“اللذة البصرية وسينما السرد – لاورا ميلفي، 1975- ترجمة وإعداد: هشام روحانا”

“Youssef Chahine -By Ibrahim Fawal, British Film Institute, 2001”

“Perverse Spectators: The Practices of Film Reception–By Janet Staiger”

Visited 141 times, 1 visit(s) today