الوقوع في غرام فيلم

من فيلم "شجرة الحياة" من فيلم "شجرة الحياة"

ثمة أفلام تحرص على مشاهدتها المرّة تلو الأخرى، وعبر سنوات طويلة، من دون أن تشبع أو تمل، أو تفقد حماسك. هذه العلاقة الحميمة تستمر لسنوات، وقد تظل قوية ومتجدّدة لسنوات طويلة قادمة.

هي أفلام صمدت أمام امتحان الزمن، وليست مرشحة للنسيان. تظل عالقة في ذاكرتنا، لا تريد أن تفارق. لا يخبو حضورها، لا يبهت، لا يتضاءل. يسطع حضورها بين الحين والحين.

أفلام فاتنة، آسرة، لا تبوح بأسرارها دفعة واحدة، وإنما على نحو تدريجي.. وببطء. لا تكشف عما تختزنه وتكتنزه إلا على مهل، عبر مشاهدات عديدة.. ففي كل مرّة تكتشف شيئاً جديداً، مختلفاً. مفاجآت لا تُحصى، تبزغ على نحو غير متوقع. وفي كل مرّة تتفتح أعماق جديدة، وتتكشّف آفاق طريّة.

أفلام تكبر معنا.. تماماً مثل الأصدقاء.

أفلام عظيمة تنعشك، تنتشلك من حالة السكون والبلادة والضجر، تحرّك مشاعرك وأفكارك. تجعلك تتصل بأعماقك، بأحاسيسك، بالكامن تحت عتبة الوعي. تجعلك تهتم، تكترث، تؤمن بالاحتمالات. تجعلك تشعر بأنك حيّ.

هي تخاطبنا. تُظهر لنا ما لا نراه. تمنحنا بسخاء ما ينكره ويحرّمه علينا واقعنا. لا تزعم أنها تنقذ البشرية أو تغيّر العالم، لكنها قادرة أن تساعدنا في فهم أمور معيّنة، عن ذواتنا وعن الآخرين. تعلّمنا أن نكون مفتونين بالأشياء اليومية، وأن نتواصل مع ماضينا. تحقًق لنا ما لا يمكن تحقيقه في الحياة.

الفيلم – في تعريفه الأمثل – هو اكتشاف الخارق والمعجز في الحياة اليومية. إذا كان الواقع يتسم بالمألوفية، بالتكرار، بالرتابة، بالروتين الذي هو نوع من الوجود الآلي، فإن واقع الفيلم يضم اليومي والسحري، المادي والروحي. يأسر الوجوه والإيماءات والحركات وأنماط السلوك والملبس. يرصد التفاعل والتحوّل في العلاقات بين الإنسان وأخيه، الإنسان والطبيعة، الانسان والتكنولوجيا. التخوم تتلاشى.

الأفلام نوافذ، منها نطل على حيوات أخرى، ثقافات أخرى،. غالباً ما تبدو مجهولة، غريبة، مختلفة. بيئات متنوعة، عادات غير مألوفة.. نتعرّف عليها بأعين مفتوحة وعقول مرنة وقلوب تفيض حباً بالمعرفة. أرشيف كامل من الحياة في مراحل زمنية مختلفة. ذاكرة جماعية عملاقة.

للأفلام قوة، طاقة. تفتح لنا أبواباً نحو عوالم أخرى. هي أشبه بمرايا متوهجة تعكس الضوء والصوت والحركة. الأفلام حيوات موازية.. تأسر، وتفتن، وتغوي.

هناك أفلام تحبها من المشاهدة الأولى لكنك لا تثق فيها كثيراً، تخشى إن شاهدتها مرة أخرى، سوف تفسد وتخرّب ذكرى جميلة وممتعة، وسوف لن تعود تحبها. قد تفقد اهتمامك بها، لأنها تفقد أشياء من جاذبيتها الأولى، من فتنتها الأولى.

لقطة أخرى من فيلم “شجرة الحياة” لتيرانس ماليك

هناك أفلام تشاهدها في مرحلة ما (الطفولة، المراهقة) وتنال إعجابك الشديد، وولعك الغامر، لكن عندما تعيد مشاهدتها بعد سنوات، تشعر بخيبة أمل كبيرة، إذ لا يعود الفيلم ذاته.. يكون قد فقد الكثير من سحره وفتنته وجاذبيته. لذلك من الأفضل أن تتجنّب إعادة مشاهدة الأفلام التي أثارت إعجابك وأنت طفل أو مراهق، والتي لم تعد تثق فيها، لأنك قد تشاهدها الآن بعين ناضجة، متفحصة، ناقدة، فلا يصمد الفيلم أمام تقييمك له. تجنب ذلك لكي تحافظ، على الأقل، على تلك الذكرى الحلوة، الانطباعة الأولى البريئة والساذجة، عندما شاهدتها بعين طفل. 

ثمة أفلام لا تعجبك من المشاهدة الأولى، وربما تسأم منها بعد دقائق فلا تكمل مشاهدتها. غير أنها مع مرور الوقت، مع نضوجك، مع اكتسابك للكثير من المعرفة والتجربة، مع ما تطرأ عليك من تحوّلات فكرية ونفسية، ربما تتذكر ذلك الفيلم وتعيد مشاهدته، فتكتشف أنه أكثر جدّة ونضارةً مما توقّعت، وأنه صار يتمتع بجاذبية مدهشة، وأنه اكتسب قيمةً وأهمية تضعه في مصاف الأفلام المفضلة لديك.

الكثيرون يكتفون بمشاهدة الفيلم مرّة واحدة، والغالبية تعتقد أن هذه المرّة تكفي لاستيعاب الفيلم وفهمه. قد يكون هذا مقبولاً مع الأفلام ذات الحبكات البسيطة، والبنى السردية المألوفة والتقليدية، لكن هذا لا ينطبق مع أي فيلم لأنتونيوني أو بريسون، على سبيل المثال، ولهذا السبب يكون التقييم هنا غير دقيق، لآنهم لا يستطيعون الإحاطة بكل ما يرد في الفيلم، أو استيعاب ما يريد أن يقوله الفيلم، من المشاهدة الوحيدة.

في حالة تكرار المشاهدة تلحظ، أو تكتشف، شيئاً لم يسبق لك اكتشافه أو ملاحظته.. سواء في القصة أو الأداء أو التصوير، أو غير ذلك من عناصر العمل. أحياناً تعيد مشاهدة فيلم، بعد سنوات، فيبدو كما لو تشاهده للمرة الأولى.

أجمل الأفلام هي تلك التي لا تبيح نفسها، ولا تمنح نفسها، منذ العرض الأول. تلك التي لا تسفح أسرارها منذ الزيارة الأولى. التي تزداد غموضاً وإغواءً وإثارةً للاهتمام كلما أعدت مشاهدتها المرّة تلو الأخرى.

كثيرة هي الأفلام التي وقعت في غرامها. وكلما تذكّرت فيلماً، رأيت أفلاماً أخرى تتوافد نحوي وتحتشد أمامي.. كلها عظيمة وجميلة. كلها أفلام تصعد إلى المستوى الأعلى والأرقي من السينما، وبها نقش مبدعوها أسماءهم في تاريخ السينما، أسماء لا تُمحى ولا تُنسى. ولا مجال للانتقاء والتفضيل.

الأفلام تسحرنا، تغوينا، تثيرنا، تحرّك مشاعرنا، تشعرنا بمتعة بالغة. تجعلنا نعيش تجارب جديدة، مختلفة، حافلة بالمكتشفات.

للأفلام المركّبة والمعقدة والصعبة جمهورها أيضاً. قد يكون جمهوراً صغيراً ومحدوداً و”نخبوياً”، قياساً إلى الجمهور العام، لكنه قابل للاتساع والتمدّد، وهو بالتأكيد أكثر انفتاحاً وفعالية وحيوية ومرونة وتمتعاً بالوعي والروح النقدية. هذه الأفلام عادةً لا تلقى قبولاً واهتماماً من الجمهور العام وعدد كبير من النقاد، لكن رغم ذلك هي قادرة على فرض نفسها في الفضاء العالمي من خلال المهرجانات السينمائية والصالات الفنية والخاصة، وحماس بعض النقاد لها.

ما نعنيه بالصعب والغامض، عندما يلجأ المخرج إلى طمس أو محو التخوم والفواصل والفوارق بين الأزمنة، فلا يدرك المتفرج، من الوهلة الأولى، في أي زمن هو، وما إذا الحدث يقع في الماضي أم الحاضر. أو يسيء المتفرج تأويل ما يراه على الشاشة في لحظة حدوث الفعل. أو عندما يعجز المتفرج في تعيين حقيقة الصورة وما إذا كانت تنتسب إلى الواقع أو الخيال.. خصوصاً إذا كان المخرج يرفض استخدام أي مؤثر خاص في التمييز بين ما هو واقعي وما هو حلمي، مثلاً، فيصوّر الرؤيوي- الحلمي مثلما يصوّر الواقعي- الموضوعي، سواء في المظهر أو الإيقاع. كما يرفض المخرج أن يقدم معلومات بشأن شخصياته أو محتوى عمله.

هناك مخرج يريد أن يساعد المتفرج، فيضع له المفاتيح التي قد تفك مغالق بعض الصور أو الأجزاء، وقد يحل بعض الشفرات (عبر أدوات معيّنة، أو الإضاءة أو الثيمة الموسيقية). ومخرج آخر يرى أن لا ضرورة لتزويد المتفرج بالمفاتيح، واثقاً من أن المتفرج قادر بأدواته الخاصة من اختراق سطح الأشياء واكتشاف ما يبحث عنه. ولأنه لا يريد لفيلمه أن يتحول إلى مجرد قصة، أي يتحول إلى بُعد واحد، يحتمل قراءةً واحدة، في حين يطمح لأن تتعدد القراءات والتأويلات حول عمله.

بيرغمان

يقول بيرغمان: “لا أطلب من المتفرج أن يفهم، بل أن يشعر. (..) أحياناً أجازف بالعمل حسب ما يمليه عليّ دافعي ونزواتي الخاصة. وقد ثبت أن الجمهور يمكن أن يستجيب بحساسية مدهشة لأكثر المشاهد تعقيداً وابتكاراً وخروجاً عن المألوف”.

ينبغي التأكيد على أن تفاعل الجمهور مع أفلام المخرجين، الذين أحدثوا ثورةً في لغة السينما، لا يمكن تحقّقه إلا إذا تخلى المتفرج عن تصوراته المسبقة، عن مسلّماته ومفاهيمه، التي اكتسبها من مشاهدة الأعمال التقليدية، ويحاول فرضها على الفيلم.

عند الدخول في عوالمهم ينبغي تنحية المؤثرات الخارجية، والتسلّح بنظرة جديدة، طريّة، مرنة، لأنك ستدخل عالماً مختلفاً لم تطأه قدماك من قبل، وسوف تخوض تجربة لم تختبرها، لكنها ستنطبع في ذاكرتك طويلاً لأنها تتحدى النسيان.

المتفرج الذي يطالب بتفسيرات منطقية للصور المتعاقبة، بتدفق وجمال وشاعرية، سوف لن ينسجم مع ما يريد المبدعون طرحه من أساليب وأشكال وأفكار ورؤى. أفلامهم تقتضي نوعاً مختلفاً من المشاهدة ومن التقييم. أفلامهم لا تلتزم بالبناء الكلاسيكي. إنهم يخلقون لغتهم السينمائية الخاصة، مقدّمين مفرداتها (الصورة، الصوت، الصمت، الضوء، الظل، اللون) من زاوية جديدة، غير معهودة، وبإيقاع مختلف.

هذا المساء أنا ذاهب لمشاهدة فيلم. من يدري.. قد أقع في غرامه.

Visited 7 times, 1 visit(s) today