اللعنة والضـياء: أو حينما تسللت “يرما” إلى “العيون الجافة”

“العيون الجافة ” عمل إبداعي من توقيع إمرأة ، هو الفيلم المطول الأول للمخرجة المغربية نرجس النجار، و قد تمت دعوتها لتقديمه بمهرجان كان في مايو 2003 . إنه  عمل عميق  و صارم سواء من جهة بنائه أو من محتواه،  كما أنه يطرح علينا أكثر من سؤال ويلوح بأكثر من إدانة.

أ – يتعلق الأمر في هذا الفيلم   بنساء منكسرات، وإن كن باديات المرح،  يغالبن ضعفهن وقدرهن أو اللعنة التي ورثنها كما يمكن أن يرث المرء ورما خبيثا، إذ أنهن يعشن فيما يشبه الغيتو  بقرية إيزي التي هي  على ما يبدو ليست قرية متخيلة وبها  تستباح أجسادهن من طرف كل من بإمكانه أن يؤدي الثمن. وذلك ما يشكل، بشكل مأساوي ومخجل،  المورد الوحيد لعيشهن.

ب – لقد ركز الفيلم على حالة  الثنائي مينة وهالة ، مينة التي عادت بعد سنوات طوال قضتها بالسجن لتصدم باكتشافها أن القرية مازالت على الحال الذي تركته عليها وأن  ابنتها   هالة ذات الجمال المتوحش هي المكلفة بتدبير وضع القرية الإستثنائي وذاك  الإنغلاق المنتمي إلى أزمنة سحيقة. كما أن هالة هي نفسها  المكلفة والحريصة على أن تتخلص نساء القرية من مواليدهن لأن تلك هي الطريقة التي يأملن بها التخلص من اللعنة الملتصقة بأجسادهن، وهن يعشن، بهذا المعنى، عقما إراديا وليس كعقم “يرما ” في مسرحية فيديركو غارسيا لوركا التي تحمل نفس العنوان والتي اعتمدتها المخرجة الأندلسية بيلار طافورا Pilar Tavoraلإٌخراج فيلم جميل سنة 1998 .

ج –  المسنات من نساء  القرية يهجرنها للعيش بكهوف بعيدة مما يذكرنا بالعجائز اليابانيات وهن يغادرن مساكنهن نحو قمة أحد الجبال في فيلم “أنشودة ناراياما” La balade de Niriyama  وذلك قصد التنازل عن الآكل لمن هن في مقتبل العمر، ذلك أنه في  قرية إيزي لا مكان للحلم ولامكان لجسد أنثوي لا يثير الرغبة والغرائز  مما يقرب “العيون الجافة” من بعض أفلام الخيال العلمي التي تحكي عن نهاية العالم برؤية مغرقة في تشاؤمها.

د – يقدم الفيلم تصورا خاصا عن الأسرة وعن تهدم أسسها لنصبح إزاء مجتمع تغيب فيه صورة الأب وتتكفل المرأة بكل الأدوار الممكنة كما في بعض أفلام الإسباني بيدرو المودوفار وخاصة فيلمه ” كل شيء عن أمي “. وقد نعتبر أن وجود فهد، الرجل الوحيد الذي تقترب منه كاميرا نرجس النجار إلى جانب بعض الكومبارسات، هو وجود نشاز ولا يستجيب لمنطق العمل وأجوائه الأميسية، غير أن ما يبرر حضوره هو أنه شخصية مرهفة عاش مفتقدا لحنان الأبوين، وهو فنان متوحد أضحك أطفال القرية وكبارها ذات أمسية بتقليده لحركات شارلي شابلن، كما أنه، وقد يكون هذا هو الأهم بالنسبة للمنطق الموجه للوقائع، يتبنى الجانب الأنثوي من شخصيته لذا يتنكر بعد نقاش حاد مع هالة في لباس إمرأة ليجعلها تقتنع بأن الرجال أيضا يبكون ويعانون  وهو لم يجد أية غضاضة في إبراز جسده عاريا في لحظة ألم وتطهر يكسوها بياض الثلج.

هـ – سألت هالة أمها بمرارة :من نحن؟ وأكدت بمرارة أن ما يحدد هوية نساء القرية هو حرفتهن التي هي سبب حرقتهن. وإذا كان الروائي التشيكي ميلان كونديرا يعتبر أن الهوية “أو الأنا هو مجموع ما نتذكره لذا فما يرعبنا ليس فقدان المستقبل بل فقدان الماضي” (1) فإن الأم مينة ترى عكس ذلك وترغب في نسيان هويتها القديمة وتجربتها الحدية أو تجربتيها الحديتين: البغاء المهين والإعتقال المرير. وهي تربط هويتها ووضعها الجديدين بمستقبل منظور تصبح فيه نساء القرية أمهر النساجات بالمنطقة لأن رسوم وعلامات التزيين التي يستعملنها لم يعد يتقنها إلا هن “زواقكم  بدا يقلال” تقول مينة. فما هي يا ترى  العلاقة التي تجمعهن ببينلوب؟ وماذا ينتظرن بالتحديد من رغبتهن في الإنخراط في هذه التجربة الجديدة ؟ الإنعتاق؟ ربما، من أسر أغلال غير مرئية.

 و- وبارتباط مع الرسوم والعلامات، فإن من أهم ما يسترعي الإنتباه في فيلم نرجس النجار هو احتفاؤه بالبعد التشكيلي ومنحه اهتماما رئيسا  للألوان وتوزيعها في الفضاء كما هو الأمر مع حقل العار حيث يعلق منديل أحمر مقابل كل فتاة تغتصب ثم  إن الشخصيات نفسها تصبح أحيانا محض حامل للألوان لتتفرد هالة (أدت دورها سهام أسيف  بشكل جد مقنع) بثيابها السوداء وبحضورها الأنثوي الباذخ والقاسي وحزنها اللامتناهي وكأنها خرجت للتو من إحدى الأساطير الإغريقية أو من إحدى الحكايات الغجرية.

المخرجة نرجس النجار

ز- وقد نجد لوقائع هذا الفيلم ارتباطا بوقائع حكاها الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا في مسرحيته “يرما ” فالعملان معا يتمحوران حول موضوعة العقم، العقم الإرادي في حالة الفيلم المغربي والعقم غير الإرادي الذي هو قدر الشخصية الرائعة يرما. وحالة  العقم تدفع حتما إلى التساؤل حول وظيفة الجسد الأنثوي في العملين وحول مدى احتفاظه بالقدرة على الإغراء مع انتفاء قدرته على العطاء وتعطل خصوبته كما أن نفس هذا الوضع يدفع إلى التساؤل حول مفهوم الشرف بمختلف تداعياته. وكتعويض عن حالة  العقم، ربما، تحضر الطبيعة في عملي نرجس النجار وفيديريكو غارسيا لوركا باعتبارها مكونا أساسيا في البناء العام  يرمز إلى الخصوبة لذا فإن هذه الطبيعة  تستضيف احتفالات الرقص حول النار وشعائر الغناء  التي يبرز فيها التجاذب الإيروتيكي بين الجنسين كما أنها تشهد على تقديم بعض القرابين الرمزية أو الفعلية لإله خفي قد يكون هو المتحكم في مصائر الشخصيات.

ن- يعتمد هذا الفيلم ذو الإيقاع البطيء والمتبني للتشخيص المسرحي، مما يقربه مرة أخرى من “يرما”، على الصمت وعلى ترافلينغات تلامس الفضاءات وكأنها تكتشفها لأول مرة. وقد نصفه  بأنه عمل  ذو أطروحة يندد بوضع ما ويقترب من  الحياة اليومية لهامش منسي وينتصر لقيم مغايرة ويبحث عن ضياء ما. ويبدو أن نرجس النجار ليست ضد مثل هذا التوصيف  فهي تدافع عن سينما مواطنة، سينما منتبهة بعمق لتحولات زمنها ومجتمعها  وتحاور المستقبل كما يبدو ذلك جليا في نهاية الفيلم حيث تلتقي ثلاث نساء يمثلن ثلاثة أجيال( مينة وابنتها وحفيدتها) ويرافقهن سائق يعشق الفن ولا تجعله الحافلة المعطلة يقع فريسة لليأس  بل إنه، رفقة نسائه، ينظر نحو البعيد وكأنه يردد هذه المقاطع العذبة للشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو: ” أيها العابر/ آثارك هي الطريق/ لاشيء أكثر/ أيها العابر/ ليس ثمة طريق / تتشكل الطرق عند المسير”.

ح- يقول أحد الباحثين:”إن الصورة السينمائية تحافظ على علاقتها بالواقع وتعمل على تحويل هذا الواقع إلى مادة سحرية” (2) وقد تمكنت نرجس من تحقيق هذه المعادلة الصعبة وأهدتنا عملا قويا، مبنيا بصرامة ومسؤولية جمالية وأخلاقية، عملا يربكنا لأنه يطرح علينا أسئلة مؤلمة أجلنا طولا محاولة تلمس إجابة ما عنها.

هـامشان:

EL CULTURAL, 1Mayo 2003- 1

الترجمة العربية للحوار نشرت بـ”العلم الثقافي”، عدد 31 مايو 2003 

2- Marcel Martin , le langage cinématographique , les editions du Cerf, Paris, 1992 , p2

Visited 81 times, 1 visit(s) today