الفيلم الفرنسي “تنفسّي”.. الشغف على حافة الجنس

يُذكِّرنا الشريط السينمائي الفرنسي “تنفسّي”، بعمل عبد اللطيف كشيش الحاصل على سعفة كان الذهبية قبل أعوام “حياة أديل”، ربما هي أجواء قريبة للغاية، باريس وفتاة مُراهقة تحاول التعرف على العالم مغمورة داخل إحساس عنيف بالوحدة، وحدة يُبددها ظهور فتاة أخرى، تقلب العالم إلى الأفضل لكنها تبتعد في النهاية.

غير أن “تنفسّي” اُختير للعرض ضمن أسبوع نقاد كان، وليس في المُسابقة الرسمية، وهو مقارنة بالصخب الذي اختاره كشيش لأديل الخاصّة به، صوته خافت، وشغفه تحت الجلد أكثر منه ناتئًا، إن الشغف الذي يبدأ هُنا من اللحظة التي تُشاهد فيها شارلي زميلتها المُستجدّة سارة، ليس خاليًا من الجنس، لكنه أيضًا لا ينغمر فيه كُليًا كما يحدث مع أديل، إنه شغف مَنْ يبحث عن نَفَسْ خارج الماء. شارلي تعيش معاناة أبوين تتردى حياتهما معًا باستمرار دون أن ينفصلا، لديها أزمة في التعامل مع الذكور، وفي المُقدمة الأب بالطبع، بينما سارة على الناحية الأخرى، مُندفعة ومُمتلئة بالحياة، سارة التي تُدخن بشراهة وتُمارس الحياة على الحافة، ابنة لأم سكيرة قليلًا ما تفيق، غير حاضرة معظم الوقت.

كما يقول الإعلان الترويجي لفيلم الفرنسي جاك أوديار “العظم والصدأ”، فإن هذه العاطفة القوية التي تظهر بين الفتاتين هي ابنة “لعالمين يتداعيان”، في لحظة تُصبح الصورة فيها ضبابية ومُرتبكة فالكاميرا المحمولة معظم الوقت على الكتف، تُفرِّج على عالم شارلي وسارة، عالم شارلي من الداخل، وعالم سارة بعين شارلي المفتونة، التي ستُصبح بعد قليل ملعونة من قِبل رفيقتها دون أن تدري تمامًا لماذا، ودون أن تكف أيضًا عن محاولاتها المُستمرة في الاقتراب مرّة أخرى.

تسعى مُخرجة الفيلم ميلاني لوران، وهي مُمثلة ومُغنية وكاتبة وبطلة في فيلم تارنتينو الشهير “أوغاد مجهولون”، إلى جانب النص الأصلي المأخوذ عن رواية لآن صوفي براسم، تسعى إلى صناعة حضور أيقوني لسارة. في مشهد من “تنفسّ” تجلس سارة مُعطية ظهرها إلى الكاميرا شعَّرها الذهبي يملأ الكادر بينما هي تحكي لشارلي ووالدتها عن الخالة التي تضحك دائمًا بافتعال مُقلدة ضحكتها المجنونة، تنتشي شارلي ثم تتوقف قليلًا كي تُداري سعادتها أمام تعاسة الأم الحاضرة طوال الوقت، إن سارة تستلب الجميع إلى دائرتها وكُل ما تحاول شارلي أن تفعله هو أن تبقى داخل حدود هذه الدائرة.

مع ذلك، فإن سؤالًا حول المدى الذي وصلت إليه العلاقة بين الفتاتين، لا يُمكن إجابته بوضوح بعد مُشاهدة واحدة، ففي الوقت الذي لجأ فيه كثيرُ ممن علقّوا على الفيلم إلى تشخيص العلاقة بين الفتاتين كونها علاقة صداقة على حافة الشغف، علّق المشاهدون لإعلان الفيلم عبر قناة اليوتيوب، بأنهم لا يعرفون إذا ما كانتا شارلي وسارة حبيبتين أم لا. هذه هي المساحة الفنيّة التي تختارها ميلاني لوران داخل الفيلم، شيء من الالتباس، الوقوف على رؤوس الأصابع، لا يُمكن نسيان أن شارلي، على الأقل شارلي، في طور التعرف على هويتها الجنسية، وأن كل هذا الافتتان الذي تُسربه الكاميرا بعين البطلة وهي تُحدق في سارة أينما تذهب، سيصل إلى نقطة حادة تنقلب بعدها العلاقة، حين تؤدي الفتاتين مشهدًا تمثيليًا من باب اللعب ينتهي بأن تُقبِّل شارلي سارة بحميمية، إنها حين تشتعل تمامًا سوف تتعرض لإيقاف عنيف من قِبل سارة التي يبدأ من هُنا جموحها إلى الهجران.

بعدها تدخل شارلي مساحات طازجة من الألم، تتشوش فيها الصورة كثيرًا دون أن يخفّ الشغف، إنها تُسامح سارة كل مرّة تتعرض خلالها للإيذاء النفسيّ، سارة تنطلق في علاقات أخرى، تغيب طويلًا ثم تعود لاحتضان شارلي والرقص معها كما لو أن شيئًا لم يحدث، رحلة مؤلمة تسيرها البطلة كي تعرف على الأقل ما الذي تغيّر؟ تتلصص على سارة وتفهم كم هي ضائعة، مع أم غير مُحبة وفي بيت افتراضي، تجد أسباب جديدة للتسامح مع الألم غير المُبرر الذي تُسببه سارة في الوقت نفسه الذي تعود فيه علاقة أبويّ شارلي مرّة أخرى، تسمع شارلي صوتهما وهُما يمارسان الجنس بطريقة عنيفة، وتستيقظ في الصباح على وجه الأم تسألها “لماذا تُسامحيه كل مرة؟ والأم تجيب لم أستطع ألا أفعل”.

إن سارة لا تريد لشارلي أن تُسامحها وهي تقف هكذا من بعيد ولا تلمح شارلي وهي تتحسس الزجاج الذي يعكس صورة الرفيقة البعيدة جدًا، ربما أن سارة لم تتسامح بخصوص كل هذا العري النفسيّ أمام شارلي التي قالت لها سارة ذات يوم “أنتِ جيملة” يبدو أنها أصبحت تعرف أكثر مما ينبغي، لكن هذا الشغف الذي ولد كبيرًا، ربما لم يعد بالإمكان إيقافه بطريقة آمنة، يُصبح خيار القتل مطروحًا سواء مجازيًا أو حرفيًا.

عمومًا تُحرك ميلان لوران عالمها في الفيلم داخل هذه المساحة من الشغف، التي لا تعود معها رؤية العالم بنفس الطريقة مُمكنة كاللحظة قبل ظهورها، كُل ما تريده شارلي أن تواصل المقدرة على التنفس ولو من غير سارة، أن تُجرِّب نفسها مرة أخرى مع حبيب سابق، لعبة تفهمها سارة فتعود لجذب شارلي، قبل أن تصدمها بجداراتها غير المُبالية مرة أخرى. إذا كان كشيش اختار رسم خطين يفترقان ببساطة في أديل، فإن ميلاني تأخذ الافتراق إلى نقطة ميلودرامية مرعبة من تبادل الإيذاء، يتحوَّل فيها هدوء شارلي إلى تحديقة مذعورة وُمطمئنة أخيرًا في وجه الكاميرا، لقطة تميل إلى المُبالغة التمثيلية على نحو ما، لكنها ليست فارغة من العاطفة على الأقل.
 

Visited 215 times, 1 visit(s) today