الفيلم السعودي “راس براس”.. عندما يصبح التجريب هدفاً في ذاته

حسام الخولي

ثمة رحلة قصيرة الزمن، قوية التأثير يمكن تحليلها حتى نصل إلى اللحظة الحالية التي قدمت فيها السعودية فيلم “راس براس”، هذه الرحلة تبدو أكثر تعبيرًا عن سياقات هذا الفيلم الجديد الذي يمثل آخر تعاونات أبطال التجربة، الكاتب عبد العزيز المزيني والمخرج مالك نجر، وربما للتعبير عن الواقع السعودي العام أكثر من أي شيء آخر، عن التجريب المستمر الذي يمثل الملاذ للتغيير العام.

تصادف وجود تجربة الثنائي (نجر والمزيني) منذ البداية بواقع الظرف التاريخي السعودي العام الذي امتثل للتغيير وتمكين الشباب من خلال العمل الترفيهي، كانت في رؤية المملكة 2030 عناية مؤسِسة للترفيه بشكلٍ عام، من خلال دعمه وتعزيزه، وتشجيع القطاع الخاص لتقديم مساهماته فيه، بات المتوقع أن تصل مساهمة قطاع الترفيه إلى 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي. ولم يكن هذا الاهتمام يوجد، لولا أن احتاجت السعودية في لحظة زمنية أن تتخطى الزمن أو تسبقه، فأوجدت من خلال نماذج متعددة مساحات واسعة من التجريب المستمر في كل إتجاه حتى تتحدد بوصلة القوة والتميز، سريعًا، وربما وجدت ضالتها في شركة ميركوت التي تحمست نتفليكس لآخر إنتاجاتها “راس براس”.

يطرح فيلم “راس براس” الذي أنتجته شركة سرب بمشاركة منصة نتفليكس العالمية عددا من الأسئلة تخص البداية التي أوجدت هؤلاء الصناع على قمة الصناعة السعودية السينمائية الحالية، وما يعنيه التحول التجريبي من إنتاجهم المعتاد في مظلة الرسوم المتحركة وانتقالهم نحو صناعة فيلم جديد يعتمد على أبطال في صورتهم الطبيعية لتشخيص خيالات الصناع الكاريكاتورية المعتادة. 

بدايات قديمة سريعة التطور

يمكن التأريخ لتطوّر عمل (نجر والمزيني) أو السعي لإنتاج كوميديا سعودية حديثة من وقت تواجد “نادي جدة الكوميدي” الأول من نوعه في السعودية، الذي فتح أبوابه لإقامة دورية للحفلات الكوميدية (ستاند أب كوميدي)، تطورت أكثر واستمرت في 2014 لتنطلق النسخة الثانية من “مهرجان الكوميديا الأوّل”، الذي بات يعتبر أبرز منصة سعودية لإنتاج الكوميديا. واستهدف المهرجان كبار نجوم الكوميديا، كما ألقى الضوء وفتح الباب أمام مواهب صاعدة.

قدّم المهرجان المواهب الجديدة على استحياء في المجتمع الذي لم يعتاد على ذلك من قبل، كما قدم عددًا من الندوات حول فن الكوميديا، وبدأ الحضور يفهم ويستوعب ويتحمس أكثر حتى زاد عدد المشاركين بشكل ملحوظ، كما زادت أعداد الجماهير اسعودية المقبلة على الكوميديا، بوتيرة سريعة حتى وصلت لمرحلة مذهلة من التطور والتناول.  

بالتوازي مع هذا التحرك الذي أوجد تفاعلا قدمت شركة ميركوت الفنية وأصحابها (نجر والمزيني وآخرين) بعض الأعمال الكوميدية بشكل محترف من خلال عدد قليل من الأشخاص يموّلون أنفسهم ذاتيًا حتى تقف الشركة على قدميها، وحازت أعمالهم على تفاعل كبير بين الأوساط الشبابية، واستطاعت خلال سنوات قليلة تقديم عدد من البرامج التي حصدت إعجاب الملايين داخل وخارج السعودية، كان على رأسها برنامج “مسامير”.

“مسامير يُعتبر أول مسلسل كرتوني سعودي يعرض على الإنترنت فقط، ويخضع لعملية إنتاج عالية الحرفية، بدأت من خلال المخرج مالك نجر والكاتب فيصل العامر والكاتب عبد العزيز المزيني وتوسّعت مرة بعد الأخرى، واستفادت مسامير بالطبع من تلك التجارب والحركة بوجهٍ عام فأوجدت شخصيات مسامير الكارتونية التي شملت المجتمع السعودي بأطيافه المختلفة. حلقات منفصلة تكشف عالميًا كيف يمكن أن تصبح السعودية في الريادة كمساحة آمنة للإنتاج العربي، تمثل السعودية الجديدة كما تمثل جيل شباب كامل بات يمل من الإنتاج المتشابه والشخصيات المحفوظة التي لا تقول شيء حقيقي.

خلقت شخصيات مسامير استثناء كوميديا للداخل السعودي لم يكن معتادا، باتت تنبيء أو تنبّه عن مجتمع جديد له خصوصة ونبرة كوميدية مميزة، يدرك أكثر صناعة الترفيه في التلفزيون والسينما عمومًا، كما يفهم كيف يمكن إنتاج قصص من الواقع العربي لا مجرد نقل وإبهار أو حتى مجرد إعادة اختراع سخرية قديمة غير مضحكة، أوجد أشخاصا يفهمون مجتمعهم جيدًا، يمكن أن نتلمّس من خلال أعمالهم مساحات نقدية عربية تخص المجتمع العربي ككيان أوسع أكثر مما تخص بيئة محلية مغلقة أو عالمية متجاوزة لأزماتنا الشخصية.  

يتضح ذلك بتصفح قناة “مسامير” السعودية لأفلام الكرتون التي مثّلت درة إنتاجات ميركوت وأكثر برامجها شهرة وتفاعل، نظرة سريعة على القناة ستكون مشاهد ضمن ملايين المتابعين لهذا الحدث السعودي الثائر على أوضاع المجتمع.

شجاعة التواجد السعودي أصبحت أكثر إغراءً مع تفاعل الجمهور الجديد للبحث عن كل جديد، ودعم الجمهور من خارجها الذي لم يصدق أن ثمة شباباً سعوديين وراء كوميديا جديدة متحررة تماماً، لذلك سعى الصناع إلى الذهاب لمساحة أكثر من تجريب مسامير أو حتى فيلم محافظة مسامير الذي حقق نجاحا كبيرا، بدلًا من استغلاله مرة أخرى، جاء الجموح هذه المرة للتجريب في فيلم “راس براس” الذي يتوج مرحلة جديدة بدا عنوانها الأول هو التجريب في ذاته.

تجريب أم تهور؟

يبدو “راس براس” فيلم أكشن، يمثل باكورة أعمال الشريكان (نجر والمزيني) في السينما بعوالم حقيقية غير كارتونية، يحكي الفيلم قصة السائق درويش الذي يقع عن طريق الخطأ مع أكبر مجرم متقاعد من المطار ويتم مطاردته من قبل عصابة المجرم، ويبدأ بعدها كل من درويش، وفياض الرئيس التنفيذي الجديد لشركة التاكسي في مهمة تضليل المجرم، ومحاولة التخلص من جثة الرجل الكبير، من وحي هذا العالم المرتبك غير المنطقي عمومًا، وتدور القصة لتنتج ضحكا وإثارة سعودية تبدو غير معتادة.  

يحكي الفيلم القصة داخل السعودية، في مدينة “بذيخة” الوهمية المظلمة الغامضة التي يحكمها الأشرار، بشخصيات حقيقية في إطار كارتوني نسبيًا، يتحرك الجميع في الظلام، المدينة غطاء على التخلص منه والبعد عنه في أقرب وقت، وربما تبدو تفصيلة النقمة على المدينة عمومًا ظاهرة بشكل واع أو غير واع في أغلب أعمال الثنائي.

لا تبدو مدينة بذيخة من وحي الخيال تمامًا، ربما تمثّل السعودية في زمن قديم؛ طرقها وعرة، يحاول بعض الأشرار في الخفاء السيطرة عليها، أبطالها الحقيقيون تنقذهم طيبة القلب وخفّة الظل، متورطون في مشكلات تتجاوزهم، مجبرون على إنقاذ المدينة من أيدي الأشرار، رحلة الأبطال لا يمكن فهمها أو التعاطف معها دون معرفة سر المدينة القديم، الذي تتبدّل من خلاله سذاجتهم بسعيهم إلى الخلاص، الحل الوحيد في إنقاذ المدينة من الأشرار.

الفيلم متأثر بعوالم ظلامية، تبدو أحيانًا قادمة من هوليوود وأحيانًا أخرى متأثرة بالسينما الهندية، أبطال مماثلون لباتمان في المدينة المظلمة. ويحمل العمل أخطاء الفيلم الأول المعتادة؛ سيناريو مشتت، وإخراج استعراضي أكثر مما يبدو، يحاول إثبات قوة الصنّاع في جهات عدّة، يجرّب تمامًا في كل إتجاه، لا يمسك خطوطا بعينها سواء الأكشن أو الكوميديا أو الدراما بينهما، ليقدمها بالقوة والتأثير المعتادين، إجمالًا بات محاولة مضنية لإثبات الذات بتمثيل كل شيء، مهلهل لكن يمكن التعلم من خلاله والتأسيس عليه.

بالرغم من كل شيء يظل “راس براس” نقطة قوة في مسيرة الثنائي الذي قدم أقوى إنتاجات السعودية في آخر سنوات من خلال مسامير، ويبدو مقامرة أخرى وسعيا حثيثا للتجريب في منطقة جديدة، يطمح للاستكشاف والاختبار، يمكن الاستفادة في مراحل لاحقة من التمكن أكثر أثناء صناعة عمل آخر، أكثر تكثيفًا وتركيزًا في نقطة بعينها، والتعلم أن صناعة فيلم رسوم متحركة بشخصيات كارتونية متضخمة يختلف تمامًا عن صناعة فيلم سينمائي أكشن يحتاج رسما مختلفا للشخصيات وتفاعلاتها كما يحتاج لرؤية أذكى من المخرج الذي بدا مشتتاً بين الإخراج وبين المشاركة بأحد الأدوار في الفيلم.   

Visited 2 times, 1 visit(s) today