العنف في عالم الصغار في أفلام بانوراما الفيلم الأوروبي


كان مستوى الاختيارات في دورة هذا العاممن بانوراما الفيلم الأوروبي بالقاهرة أقل من المستوى المعتاد مما شاهدناه في دورات سابقة كانت تعرض الأفلام المتوجة بجوائز كان وبرلين، وأعمال بيدرو ألمودوفار ومايكل هانيكه ولارس فون ترايير والأخوين تافياني وغيرهم من أساطين السينما الأوروبية، بينما كان الإسم الأبرز هذا العام هو فرانسوا أوزون بفيلمه المثير للجدل “شابة وجميلة”.

صحيح أن هوية البانوراما كحدث يهتم أساسا بالسينما الأوروبية بدأت تخفت في ظل التواجد الكثيف لأفلام غير أوروبية في برنامجي العمل الأول والأفلام التسجيلية، إلا أنها تبقى حدثا فعالا وجاذبا، يجمع محبي السينما.

وفي كل عام تظهر تيمة ما، أو هم مشترك يمكن رصده في عدد من الأفلام المعروضة، يكون في أغلب الأحيان قد حدث بغير وعي من مبرمجي الأفلام، لكنه مدخل مثير للحديث عن بعض الأفلام المعروضة بحيث تعطي وجهات نظر مختلفة، لصناع سينما معاصرين، عن نفس الموضوع أو القضية. والموضوع الأبرز في رأيي في بانوراما هذا العام كان علاقة الصغار بالعنف، والذي تكرر في ثلاثة أفلام بطرق ووجهات نظر متباينة.

الحلقة الأبرز

أفضل الأفلام الثلاثة التي تطرقت لموضوع عنف الصغار، كان الفيلم الكازاخستاني “دروس التوافق” أو “Harmony Lessons” للمخرج إيمير بايجازين، وهو أحد الأفلام التي ظلمتها برمجة العروض في القاعة التي تابعت فيها البانوراما “جالاكسي”، عندما تم وضع الفيلم في عرض وحيد بحفلة منتصف الليل، لأشاهده في قاعة بها ستة أشخاص فقط، بينما كان من الممكن أن يوضع بدلا من أي موعد إعادة لفيلم من الأفلام التي عرضت مرتين بنفس القاعة، لا سيما وأنه كان واحدا من أبرز أفلام مسابقة مهرجان برلين الرسمية في دورته الأخيرة، ورشحه الكثيرون لجائزة الدب الذهبي قبل أن ينتزعها الفيلم الروماني الرائع “وضع الطفل”، ليكتفي الفيلم الكازاخستاني بجائزة الدب الفضي لأحسن إضافة فنية في مجال التصوير.

“دروس في التوافق” فيلم قاس، لا يحاول دفع مشاهده للتفاعل أو التعاطف مع شخصياته، بل يضعه في حالة من الصدمة تدفعه لشحذ حواسه وعقله، لمحاولة هضم الحكاية القاسية وربطها بالعلاقات البصرية التي يؤسسها المخرج منذ اللحظات الأولى بين البطل المراهق أصلان، وبين عناصر بيئته المحيطة من حيوانات وحشرات تتحول مع الوقت من مجرد “موتيفات” بصرية إلى شخصيات ضمن سياق الفيلم.

استخدام هذا الشكل من العلاقات يبدأ من المشهد الأول للفيلم، والذي نشاهد أصلان فيه يقوم بذبح أحد الخراف التي تربيها أمه، في مشهد يجعل علاقتك بالفيلم تبدأ من لحظة تنوير تخبرك شيئا عن البطل وعن عالمه. فأصلان الذي نراه في النصف الأول من الفيلم طفلا هادئا ذكيا، يجيد استخدام عناصر بسيطة في تكوين ألعاب تصل لحد الاختراعات، نتذكر دائما أنه قادر على الذبح بيده طالما امتلك الأسباب الكافية ـ والمبرير المجتمعي أيضا.

الإدراك السابق يجعلك قادرا على استيعاب رحلة أصلان النفسية الوعرة، من طفل هادئ ذكي، إلى قاتل بالصدفة يخترع مسدسا يدويا للخلاص من الطالب البلطجي الذي يحيل حياته جحيما، ثم إلى قاتل يستمتع بآثار جرائمه عندما تشتد عليه الضغوط والتعذيب داخل السجن الحكومي، فهو ككل شخص يمتلك داخله بذور الوحشية التي تصير الملاذ الوحيد عندما تجتمع الظروف المحيطة ضد معيشته بطريقة مسالمة، تماما كحيواني الضب الذين يقوم بتربيتهما، ويتركهما للتضور جوعا عندما يُقبض عليه، فلا يكون من أحدهما إلا أن يقتل الآخر لعيش هو، تزامنا مع ما فعله أصلان نفسه في صديقه الوحيد.

جودة صنعة أفسدتها الميلودراما

وإذا كان “دروس التوافق” يهتم بمسببات العنف لدي الصغار، فإن الفيلم الألماني “تحويل اللوم” أو “Shifting The Blame” ينظر إلى نتائج هذا العنف، أو بقول أدق لكيفية التخلص من هذه النتائج. فالفيلم الذي أخرجه لارس جونار لوتز يدخل سريعا للحدث العنيف، مراهق ملثم يقتحم سيارة سيدة ليسرقها بالإكراه، ولا يكتفي بالسرقة بل يقوم بضربها بعنف، يكشف عن كراهية للمجتمع سنلمسها لاحقا، يوازيها شعور بالوحدة يتمثل في قيامه بأخذ صورتي طفلتيها من محفظتها الشخصية، ليضعهما ضمن مجموعته لصور أطفال ضحاياه.

من فيلم “تحويل اللوم”

البداية تحمل كل عناصر الجذب: تدخل للحدث دون تمهيد أو إطناب، تؤسس لأبعاد شخصية البطل بينجامين بتفصيلتين محكمتين، وتدخله في المغامرة سريعا، بعدما نراه في المشهد التالي داخل السجن لقضية لا نعرفها ـ ليست التي رأيناها في البداية ـ ليوافق مجبرا على الانتقال لتجربة اجتماعية، تتمثل في وضعه داخل “سجن بلا أسوار”، وهو أشبه بمنزل يتلقى نزلاءه من المجرمين الصغار علاجا نفسيا مكثفا، بهدف إعادة تأهيلهم بدلا من أن يقضوا أعمارهم وراء القضبان.

التمزق بين سخط بين على الآخرين وجمعه لصور الأطفال بحثا عن الألفة، وبين عنفه المبالغ فيه وضبط النفس الإجباري المفروض عليه حتى لا يعود للسجن، كلها أمور كانت تبشر بدراما نفسية من طراز رفيع. لكن للأسف انحرف الفيلم بشكل مفاجئ إلى منحنى ميلودرامي صارخ، يعتمد على صدفة من طراز الخمسينيات: المرأة التي سرقها واعتدى عليها تعمل اخصائية اجتماعية في نفس المؤسسة، بل هي من ستكون معالجته المسؤولة عن حالته. ليرسم هذا المأزق المزدوج: عليه كي يبرأ من ماضيه ـ طبقا لمنطق البرنامج العلاجي ـ أن يعترف ويعتذر لضحاياه، وعليها ـ طبقا لقناعاتها كمعالجة ـ أن تسامحه على ما فعله بها لتثبت أن طريقتها في العلاج فعالة.

المأزق الميلودرامي دفع الفيلم دفعا نحو شكل درامي لا يتناسب مع بدايته القوية، مشاهد عتيقة وحلول درامية على الطريقة السيد فيلدية ـ حسب معلم السيناريو الأسخف سيد فيلد، فالبطل يمزق صورة أحدى الطفلتين خوفا عندما يشاهد والدتهما، لكنه ينسى شكل الطفلة الأخرى ويترك الصورة، بلا سبب واضح بالطبع سوى أن تجدها الأم المكلومة في نهاية الفيلم فتكتشف حقيقة الشاب!

هذا الشكل المحفوظ للزرع والحصاد الدرامي foreshadowing، وغيره من التفاصيل الميلودرامية، أفقدت الفيلم قوته تدريجيا، وبالرغم من التمكن التمثيلي الواضح وإجادة الصنعة إخراجيا، إلا أن الفلسفة العامة للعمل أصابها خلل يصعب معالجته بأي إجادة تقنية.

عنف يهدم حياة مثالية

وإذا كان بطلي الفيلمين السابقين يملكان أسبابا للعنف، فبطل الفيلم الأيرلندي “ما فعله ريتشارد” أو “What Richard Did” للمخرج ليني أبراهامسون يأتي على النقيض تماما. فالبطل ريتشارد هو الفتى الذهبي بكل ما تحمله الكلمة من معان: وسيم، ثري، ناجح في دراسته، رياضي، محبوب من الجميع، باختصار هو فتى يعلم الجميع ويعلم قبلهم أن بانتظاره مستقبل باهر، وهو ما تدركه الفتاة لارا التي تقع في حبه مفضلة إياه على صديقه ذي المستقبل المحدود.

من فيلم “ما فعله ريتشارد”

يسير الفيلم سرديا وإخراجيا كفيلم مراهقين مبهج، لنتابع تفاصيل علاقة ريتشارد ولارا، ويسقط البعض أحلامه على ريتشارد الذي يحمل كل ما يمكن لمتفرج أن يتمناه، حتى ينقلب الوضع في منتصف الفيلم عندما يتشاجر ريتشارد مع صديقه بسبب لارا، ويضربه بعنف ويتركه وراءه، ليكتشف في الصباح التالي أن الصبي هزيل الجسد قد من مات من آثار الضرب، فتنقلب حياته رأسا على عقب، ويعيش صراعا بين التستر على ما حدث أو الاعتراف بفعلته والتضحية بالمستقبل.

مشكلة الفيلم الحقيقية هي السطحية في التعامل مع الوضع برمته، سواء قبل الحادث أو بعده، فمواد الفيلم الدعائية تصف الفيلم بأنه “يرصد مأزق شاب يواجه الفجوة بين ما كان يعتقده في نفسه، وما اكتشف أنها حقيقته”، بينما شريط الفيلم نفسه لا يوضح نفس الفجوة المذكورة على الإطلاق. فالحقيقة أن ريتشارد شخص مثالي بالفعل، لا يدعي الأمر ولا يخفي حقيقة متوحشة تحت السطح، وما اقترفه جريمة ولكنه يظل مجرد حادث، تسببت الظروف في تحريكه، ولم يظهر ريتشارد فيه وحشية تظهر “حقيقته” المدّعاة.

لاحظ أن تنفيذ مشهد الشجار نفسه يأتي كتنفيذ أي مشاجرة صبيانية تحدث لكل شباب العالم تقريبا بغض النظر عن مستواهم المعيشي، بل إنه عندما أذيع خبر مقتل صبي في الصباح، اعتقدت لوهلة أن بالأمر شكل من التضليل وأننا سنكتشف لاحقا أن القتيل شخص آخر. الأمر الذي يهدم تلقائيا فكرة اكتشاف ريتشارد لحقيقته، والتي لم تختلف كثيرا في رأيي، وحتى قيامه اللحظي بإخفاء حقيقة فعلته حتى كاد الأمر يمر بسلام، ينتهي سريعا بعد أيام عندما يفشل في التماسك أكثر ليعترف لوالده بما فعله.

الاعتراف يؤكد على نبل ريتشارد الذي لم نكن مخدوعين فيه، ويسطح من دراما الفيلم بالكامل، الذي لن تخرج منه سوى بقليل من الشفقة على شاب أبعدته الظروف عن مستقبل باهر، دون أن تمتلك في المقابل تساؤلات موازية عن فكرة العنف وحقيقة النفس الإنسانية كالتي يحملها “دروس التوافق” على سبيل المثال، فما فعله ريتشارد ـ كما يقول عنوان الفيلم ـ لا يختلف كثيرا عما قد يفعله أي مشاهد في موقف مماثل!

كلمة أخيرة

دون أن نقفز لاستنتاجات ما أنزل الله بها من سلطان، من نوعية أن البانوراما كشفت عن أوجه لمشكلات عنف الصغار في المجتمعات الأوروبية، يمكننا أن نقول أن العلاقة بين المراهقة والعنف علاقة أزلية، متواجدة دائما بأشكال ومستويات تختلف من مجتمع لآخر، لكنها تتفق في أنه السن الذي يتحرك الأشخاص فيه عادة للعنف البدني بصورة أسرع من باقي فترات أعمارهم، وبالتالي ساعدت أفلام البانوراما على إلقاء أكثر من نظرة على الأمر، طبقا لرؤى مخرجين من بلدان مختلفة، وهو هدف أصيل من أهداف الفعاليات السينمائية الناجحة.

Visited 34 times, 1 visit(s) today