العدمية في السينما بين خمسة مخرجين

تأتي العدمية كفكرة مفزعة في التاريخ البشري، هي تعني الفراغ واللاجدوي، والذهاب الي الحيادية المطلقة من كل شئ، وعدم الفعل واليقين الكامل بقسوة الحياة، وفناء الأمل والسعادة واحتمالية التغير الي الأحسن.

سنجد هذه العدمية الصرف في بعض الأعمال الأدبية والفلسفية والفنية، نذكر منها الفيلسوف اميل سيوران، وصمويل بيكيت وسارة كين في الأدب، وفي السينما، نجد العدمية حاضرة وبقوة عند بعض المخرجين العالميين خاصة اصحاب الرؤية التأملية المميزة.

في كل افلامه، يقترب انطوينوني من اقصي العدمية ثم يبتعد، لا يريد القول ان افلامه كلها تعبر عن العدم، فهو لا ينظر للعدمية، ولا يتدخل في صياغة خطاب سينمائي شمولي العدمية والسوداوية، فهو ينتقل بين مراحل العدمية ليستقر في منطقة وسطي تؤكد ميل انطوينوني، الي العدمية الوسطية في شكل تقنية بصرية للسرد الحكائي. وذلك بخلاف المخرج بيلاتار رائد العدمية البصرية في تاريخ السينما، او جارموش المتنصل عن الحياة بفقدان طعم الاشياء.

التشوش الذهني، الدوائر، الفراغ، ثلاثية دائمة في عدمية أنطوينوني، ينتج عنها ملل واشمئزاز، وحضور صامت متأمل للبطل،  حيث يصير كل شئ نسبيا، وليس هناك ركائز، فتتحول الشخصيات إلى كينونات ذائبة في ذاتها، تريد البحث ثم البحث، عن ماذا؟ فهي لا تعرف، مجرد ارهاصات الحياة تنعكس علي شخصيات أنطونيوني. هذه الهشاشة الشخصانية السينمائية، تصل بنا الي عدمية وسطي في منطق الحياة، فالقوة والقسوة العدمية ليست موجودة في مشهدية أنطونيوني، مما يؤكد نية الشخصيات في المحاولة، فالبحث هنا يعني وجود بصيص أمل قد يتحرك في الأحلام والأوهام.

 المنطق في الفيلمية هنا، هو محاولات البحث عن الحقيقة، لنكتشف ثلاثية أخري ( المحاولة- البحث- نسبية الحقيقة) في بصرية هائلة من الجماليات والصور، هذا الارهاق البصري واللاهث وراء اللاشئ، يجعل المشاهد، متوحدا مع المشهدية، خاصة قدرة انطوينوني عن الصياغة الحلمية في السرد السينمائي، فيصبح المشاهد باحثا مع الشخصيات، عما يبحثون عنه، حيث تجد الحكاية وتسير معها دون الوصول إلي شئ محدد.

العدمية تصير شيئاً عادياً، فليس هناك تعقيد في السرد العدمي، وليس هناك شعور بالمفاجأة لدي الشخصيات، من اشياء يرونها وتقلبات تحدث، فمضمون الحكاية هو عدمي بالأساس، ولكنه ليس قاسيا، لهذا جمع انطونيوني بين الفكر الفلسفي السينمائي وجماليات الصورة، وهو ما فعله أيضا المخرج المجري بيلاتار، الذي جمع بين السرد العدمي القاسي، وجماليات الصورة، ولكن انطونيوني في مستوي عدمي أقل من بيلاتار، الذي جعل الصورة السينمائية تشبع المشاهد روح العدم.

وبالنظر الي فيلم “المغامرة”، نري تحول قصة الحب العادية الي نظرية معقدة في الحب تتمظهر عبر لوحات بصرية هائلة، حيث يندمج الفكر والصورة معا دون تقصير في مشهدية أنطوينوني، ففي البداية يعتقد المشاهد انه أمام قصة حب عادية ثنائية العاشق والمعشوق، بأبعادها المختلفة، ولكنه لا يعلم أنه في حلمية أنطونيوني الشكلانية، التي تتضمن تعبيرا عن الحب في شكل الخواء والفراغ المفزع.

يؤكد الفيلم أن الحب موجود وجوداً ظاهريا دائما، فالذات لا يمكنها أن تستوعب الأخر بشكل كامل وعميق، فالذات تحتاج الي الآخر كتمظهر خارجي فقط، ومن هنا يظهر النضج في الشخصيات بالمشهدية، الذي يصبح عنصراً عدميا ضخما ومعبرا عن الخواء البشري، فيريد أنطوينوني القول أن النضج، خاصة في الحب، يمثل النهاية، يمثل الملل والتردد. هنا تظهر رسالة أنطوينوني لنا عبر الفيلمية بأن نعيش حياتنا دون نضج واضح وتركيز أكثر، نعيشها بحرية ولكنها رسالة غير قصدية هي رسالة مضمرة ومنتظرة.

البطل يحب مرتين ويتساءل ويبكي في آخر الفيلم عن معني الحب، وهو يحب صديقتين، وهم أيضا يهربون ويتواجدون في الحب في آن واحد. الوجود والاختفاء معاً هو التفكير مع التيار وضد التيار، وهذا يمثل النضج الكامل والشامل مما يصنع اضطرابا هائلا في النفس ويملؤها بالخواء والملل.

برزت فيلمية المخرج المجري بيلاتار، كمثال للبؤس والعدمية، حيث يحمل علي كتفيه كاميرا ترصد كل ما هو كئيب وعدمي، ذورة النهايات الكلية للوجود ستجدها في هذه المشهدية، وايضا ذروة الصراع الإنساني، حيث الصمت والموسيقي المزعجة والنظرات الحادة للشخصيات يؤكد بعدم وجود مساحة للرحمة والشفقة، الكل يبحث عن الأخر عن مزيد من الصراع.

بيلا تار

 سينما بيلاتار، هي سينما ذروة الصراع لشخصيات عدمية لا تهمس بالتفائل أو الأمل، وهو ما ينعكس في التقنية التي يستخدما بيلاتار من الأبيض والأسود، والسرد البطئ، واللقطات الطويلة المملة التي ترهق المشاهد بشكل مفزع، وتجعله في حالة هذيان وتشويش لمدة الفيلم، وما بعدها، من فترات زمينة.

هذا عالم بيلاتار، عالم التطهر والنقاء، يدخله المتفرج بمنتهي الهدوء، ليجد صورة الانسان والوجود القذرة متجسدة أمامه، انها انطولوجية وكونية البؤس والقذارة والقبح، يلعب بها بيلاتار ليفزع الانسان، ويعري النفس البشرية بجذرية وافراط لم تشهدها السينما من قبل،لذا يجد المشاهد ثلاثية دائمة في أفلامه (العدمية- الصراع- التطهر)، يسردها بدون قصة أو حبكة درامية تعطي نوعا من المغزي، مجرد سرد كابوسي مفزع يعبر عن أفكاره لقذارة العالم الدائمة، ورغم كل هذه البشاعة والملل في الفيلمية، الا هناك كثير من الجماليات البصرية عبر اللوحات الكبيرة التي يصورها بفنية مدهشة، فهناك حاجة إلى تفكيك هذه اللوحات ووضعها في متحف البؤس تحت مسمي بيلاتار.

وللاقتراب أكثر من عالم بيلاتار العدمي المفزع، نحاول تفكيك بسيط وموجز لفيلمه، “حصان تورينو”، المنتج عام 2011، حيث يصبح الزمن في الفيلم، هو زمن اللامعقول وحافة الجنون، مسرات زمنية تعلن عن تفاصيل البؤس، هذه التقنية العامة للفيلمية، يصاحبها جنون نيتشة وجنون فان غوخ.

لوحة “أكلو البطاطا” لجوخ التي تعبر عن البؤس والفقر، وهي حالة انطباعية صرف، تظهر عبر بصريات بيلاتار، من لوحة واحدة يتشكل كل مشاهد الفيلم، جنون جوخ المعروف، يصرف فيه بيلاتار بمشاهده البطيئة البائسة، حيث وجبة البطاطا اليومية بين الأب والبنت، أشاهدها تعني ذهابي للمتحف لمشاهدة لوحة جوخ كل يوم.. هذا الجنون البصري والنفسي لا يعني ان القدرة علي استيعاب هذه المشاهد فوق طاقة البشر، ان حالات الهستريا والهلاوس مطلوبة مع هذه المشاهد.

إن عدمية نيتشة وجنونه في نظرته للعالم تعبر عن نفسها من خلال بؤس الأب والنظرة الالحادية التي تغلف المشاهد، حيث لا يكترث الأب بأي شئ، سواء دمار المدينة، أو بحالة إبنته البائسة، المرة الوحيدة التي يهتم، عند جفاف المياه، فهو سيبحث عن اقل شئ يجعله مستمرا. بيلاتار يجمع بين جنونه، وجنون فان جوخ، وجنون نيتشة، وجنون الموسيقي.

تتميز سينما المخرج الامريكي المستقل، جيم جارموش، بصفة الضياع، حيث تبحث كل شخصية في الفيلمية عن هدف ضبابي، قد تعترف به أو لا تعترف، المهم أنها في حال لهاث عن شئ ما، وتبدو أيضا الشخصيات غريبة عن البيئة المحيطة بها، فهناك تركيز من جارموش علي الشخصية لجعلها مغتربة عن كل شئ، ذاتها بالأساس، ثم عن المكان وعن الآخر، حيث الحوار والتواصل يكون غير مجدٍ ومبهم، ويمر دون الوصول لشئ محدد.

 عدمية جارموش هي نتيجة وليست صفة دائما بشكل عام، بمعني أن الضياع واللاجدوي  يصبغان الأحداث والشخصيات لتجد ان النتيجة لا شئ ، فالغرابيئة تطال كل شئ طول الفيلم، لذا نجد عدمية في حدها الأدني وليس الأقصي كما هو موجود لدي بيلاتار، قد يصل بنا القول إننا بصدد لمسة عدمية يصل لها المشاهد في نهاية الفيلمية الجارموشية.

وجارموش أيضا يخلط الأوراق في أفلامه، فتجد المشاهد والشخصيات والافكار متداخلة مع بعضها البعض دون أي رابط واقعي ومنطقي، فهناك عبثية مشهدية، تجعل الشخصيات تنطلق في حرية كاملة للتصرف، دون اي رابط او قيود، فليس هناك مساحات للقوانين والاعراف، فكل شخصية لديها الحرية في الحركة والقرار.

لقطة من فيلم “رجل ميت”

ولم يكتف جارموش بهذا النوع من العدمية، انما اقترب من نوع من الفلسفة يتسم بالعدمية ايضا، حيث يتلاعب في أفلامه بأفكار ما بعد الحداثة، حيث تجد الفوضي واللامعني، وتفكيك الأشياء، لتجد ايضا اسماء علمية، معلومات تاريخية، واختراعات، وسيرة ذاتية لعلماء، وفنون وصنوف الادب، وحكم، والوان كل ذلك يتركب معاً في مشاهد، جارموش يصنع لوحات بصرية مفككة، وكنها تؤثر في المشاهد، دون ان يعي ما يراه، ولكنه ينضج سويا مع المشاهد الي اخر الفيلم، حيث المعني الجارموشي يصله في عمقه.

ورغم كل ذلك المشهدية العدمية ما بعد حداثية، الا، أن جارموش يتمسك بالحكاية السينمائية الخفيفة، ولكنها ليست الحكاية التقليدية الدرامية، انها السرديات السينمائية بطعم جارموش، بالإضافة الي فلسفة الطريق والبحث، في صور جمالية رائعة، هذا التمازج الجارموشي يرعبنا أحيانا ويثير في انفسنا الدهشة والحيرة، واحيانا أخري يحسسنا بمتعة المشاهدة وعمق اللقطة والتأثير الثري علي النفس.

المشاهد الضدي لما بعد حداثية لارس فون ترير، فليس هناك اعتراف امام هذه الفيلمية السوداوية، حيث الحزن والسواد يعبران عن الحقيقة، أو بالاحري الاقتراب من الحقيقة، محاولات للقرب من أعماق الذات، ومحاولة ازالة الغبار قليلاً عما هو خفي للغاية، حيث العالم تعبر عنه محتوياته الاعتيادية واشياؤه العميقة بمشهدية عارية أمام الذات المختبئة عن الحقيقة التي لا يود أحد أن يراها، لنري رؤية سينمائية صادمة.

 هذا الانقلاب المشهدي للمخرج لارس ترلير قاس، ما بعد حداثي وتفكيكي بكلمات تحطم الأصنام وحدود المعاني، نصبح عرايا بدون اي اغطية عابرين إلي انفسنا بدون قيود، فننقلب علي الحقيقة التي اتضحت أمامنا، ننقلب علي أنفسنا كالمعتاد، فنخفي المشهدية الترايرية داخل لاوعينا بشكل أعمق مما سبق، وندخل في ثنائية النفسية المعتادة: التهمة والاتهام.

في كل لحظة ونحن نشاهد، نرمي بالحقيقة بعيداً عن حدودنا المكانية والروحية، كأنها تهمة تبحث عن متهم جاهز، متمسكين بالخير الدائم العابر لكل شئ، نصبح اخيارا مثاليين نادرين أمام هذا الكشف الترايري للمعني والحقيقة، ونجهز علي شخصيات المادة الفيلمية بالتهم والشرور وفقدان المعني، تصبح الحقيقة المشهدية ماثلة أمام العدالة ومحملة بالغرابة والصدمة الغير مبررة.

اللقطة الترايرية تقذف بموت الأشياء إلي حضن وذهن المشاهد، تقول له إعرف بعدك العميق الخفي، إنه امامك  ليس عن طريق كتاب فلسفي، أو أدب، ونقاش مطول، انما عبر مسلك الابداع البصري وجماليات الحوار وتدفق المعاني، انها داخلك تحدثك بكل عمق. لذا استطاع تراير أن يمزج بين الفكري والنظري وبين السينمائي وجماليات الصور، هذه العبقرية الاخراجية نادرة في السينما.

فأنت تري تأثير نهاية الأمومة أمام عين سيدة تمارس نشوتها مع أبوية جامدة، يسقط الطفل من الشرفة وأعين الأم تشهد اللحظة الاخيرة لحياة طفلها، فتفقد حبها لزوجها، وتبدأ المعاناة، بنهاية الحياة، في فيلمه “ضد المسيح”، يتتبع لارس هذه اللحظة الفارقة للسيدة.

ونتطرق هنا الي تحليل أحد افلامه، والمعبرة عن ما بعد حداثية الكاميرا وعدمية الفكرة، عبر فيلم “ضد المسيح”، فرمزيات الصمت إحدى متع المشاهدة لدي ترير، ففي المشهد الافتتاحي تتحول اللذة الحسية للوالدين الي نهايات عبر غواية بصرية للطفولة لحبات الثلج، ليقفز الطفل وينتهي، ولتصاب الأم بالأسي النفسي الشاذ، وتظهر العدمية عندما تتحول اللذة الحسية الي علاج للذات الأنثوية المهشمة، وتلك المضاجعة العنيفة والغاضبة، ولكن دون جدوي، فالأشياء لدي تراير ليس لها معني أو هدف محدد، مجرد سراب داخل متاهات متعددة.

 لدي الأنثي السوادوية في الفيلم يتحول الأسي والحزن الي ثقل جسدي وانهيار وجبال متألمة مليئة بالخيالات والهلاوس، ويظل الطفل المفقود رمزاً للحضور العدمي. لنجد أن غواية التحليل النفسي وكثبان فرويد الرملية يتم إعدامها في مشهدية تراير، ثم يتدهور الأمر تدريجيا في نطاق العدم، حيث تفقد اللذة الجسدية تأثيرها وقوتها وينتهي خطابها الجزئي، حيث يتسرب من خطاب الجنس، خطاب آخر هو تمازج الشهوة بالعنف، المزيد من الألم في رحم اللذة.

نقطة الصدام الحقيقية عند شعور الأنثي بالكراهية تجاه زوجها، فتقوم بضربه في ذكوريته لأنه لا يحبها، وسيتركها حتما في أي وقت، فهي تريد نهايته وتعذيبه حتي الموت، ونهاية نفسها، تريد نهاية كل شئ، ويتضخم رويدا رويدا الصراع بينهما، حتي يصبح عدميا بائسا قاسياً بلا معني أو تحديد لشئ.

ينتقل المخرج النمساوي مايكل هانيكه في أفلامه بين العدمية القاسية العنيفة، وعدمية ما بعد الحداثة، ففي افلام “معلمة البيانو” و”العاب مضحكة وحب”، العدمية كفكرة وليست كتقنية، حيث كل شئ بائس وعدمي، فنجد في “العاب مضحكة” الملابس البيضاء رمز الملاك، تُقتل اسرة كاملة بدون سبب، مجرد ضحكات هزلية، وهناك يمزج هانيكة ما بين العبثية السردية، بمعني توظيف المناحي العبثية في السرد والتفاصيل والحكاية السينمائية، وبين العدمية كفكرة، حيث الخير يبدو قاتم ومصدر الشر في العالم بشكل مفزع.

وبالنظر الي فيلم “حب” Amour، نجد هانيكه يريد نظرية معينة في الحب، عبر السن الكبير والشيخوخة، عدمية الشخصيات، تغزو المشهدية، حيث اللقطات الفيلمية الواسعة البطيئة لا نري فيها سوي هذه الشخصيات. ففي الفيلم الحب رزين، بدون أي عاطفة مفرطة، أو بؤس ومعاناة واضحة، كل شئ محدد وهادئ وبارد دون انفعالية، وفي لحظة واحدة تنهار الزوجة ليصل الحب الي أعلي درجاته دون ابتذال، رومانسية ناضجة وصادقة، لا تجد أمام المرض سوي العدم، لانهاء كل شئ.

ينتقل هانيكة الي التشظي والفوضوية في السرد والحكاية في ثلاثة أفلام ( القارات السبعة-  71 شظية- شفرة مجهولة)، حيث عدمية ما بعد الحداثة، وهنا يقترب من الفيلمية الجارموشية في فيلمي “الكلب الشبح” و”ليلة علي الأرض”، لنجد الحكايات المنفصلة عن بعضها، والصراع الانساني العدمي البائس، وعدم القدرة علي التواصل، وعدم وجود فرصة للأمل والسعادة، فلحظات السعادة والفرح في الفيلمية لدي هانيكة معدومة بشكل مطبق.

ففي فيلم “شيفرة مجهولة”، ليست هناك فرصة، حتي لو محدودة، للتواصل في المجتمع الاوروبي الحديث، فهانيكه يريد القول إنه مجتمع عدمي للغاية، فالفئات تسمع بعضها البعض دون ان تهتم، الكل يريد الانعزال، واذا حدثت محاولة للتواصل يكون الفشل هو النتيجة. التقنية السردية في وجود حكايات منفصلة عن بعضها تسقط علي طبيعة المجتمع بأنه متشظي، ومفككك.

ويشهد هذا الفيلم ايضا مونتاجاً قاسية مختزلاً، فالزمن الحقيقي للفيلم بعيد عن المشاهد، هناك اجهاد حقيقي وقسوة في متابعة هذا الفيلم، ليقول هانيكة لنا، كل شئ لدي قاسي في الفيلم.

وفي فيلم “القارة السابعة” تعبر المشهدية عن انتحار البورجوازية كمعني سردي، حيث تجد الشخصيات نفسها أمام عالم خاوٍ من المعني، فتقرر عدم الاستمرار والكبت، ومعاندة الواقع، واستخدم هانيكه هنا العدمية لتفكيك الحياة والعالم، والتأكيد علي الانتحار كحل للخلاص والراحة، وكانت العدمية هادئة وتدريجية في التطور الدرامي، لتتحول الي عدمية عنيفة وقاسية عند قرار العائلة الغير المعلن والمتفق عيه ضمنيا في الانتحار، حيث تم تحطيم كل شئ يدل علي الحياة في شقتهم.

وأخيراً، لا يمكن القول إن سينما هانيكة، لديها رافد العدمية فقط كفكرة سينمائية، انما سنجد أنه يرمز في افلامه الي ضرورة تفكيك كل السلطات المؤذية للانسان، مثل سلطة الإعلام وزيفه وتأثيره علي العقل البشري، وسلطة الدين والأسرة، التي تجعل الانسان مكبوتاً ميالا الي العنف القاسي، وتفكيك قسوة العالم الرأسمالي والحياة المملة، التي وفرت فكرة التشيؤ لكل لحظة يعيشها الانسان، اقصد من ذلك، ان العدمية أحد روافد هانيكة كتقنية سردية وكفكرة وسجال فلسفي في كل افلامه، وذلك ايضا ينطبق على المخرجين الأربعة، فنجد أن لارس فون تراير يناقش العديد من الموضوعات الأنثوية بدرجاتها المختلفة في أفلامه، بجانب موضوعات نهاية العالم والقيم، وغلبة فعل الشر علي الخير، وهكذا مع بيلاتار وانطونيوني وجارموش.

Visited 141 times, 1 visit(s) today