إجهاض مشروع مهرجان سينمائي في الإمارات: شهادة من الداخل


كنت أحسب، وبعد ما يقرب من عقد كامل من التنظيم الناجح لمهرجانات سينمائية مثل: دبي، والخليج، والسنوات الثلاث الاخيرة من مهرجان أبو ظبي، وعدد آخر من النشاطات الثقافية في دولة الإمارات، إن المؤسسات تلك أسست لتقاليد صارمة في العمل، ورفعت سقف الإحتراف الى عِلوّ يجعل من الصعب والمسيء تماما إرتكاب أخطاء مريعة ومخجلة، كالتي وقعت فيها الدورة الإولى من مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي لأفلام البيئة، والتي عقدت الشهر الماضي. الدورة تلك أثبتت ان ذهنية التخلف والتي تهمين على الثقافة والفنون في بعض الدول العربية، وحتى على نشاطات سينمائية بتنظيم عربي في دول أوربية، مازالت حاضرة وتطل برأسها عندما تحين الفرص، ولازالت تحصد الضحايا، وإنها الشهر الماضي لم تجهض فقط على مهرجانا سينمائيا جديداً في أبو ظبي، بل إنها أساءت للبيئة، لتكون الأخيرة ضحية جديدة للآمبالاة والتخلف الفكري والتنظيمي.

من الصعب البدء بتعداد مشاكل مهرجان أبو ظبي السينمائي للبيئة، فهي كثيرة ومتداخلة ومتشعبة وتكاد تشمل كل تفصيلة في المهرجان. بعض هذه المشاكل خطيرة للدرجة التي تجعل ذكر مشاكل أخرى يُعد ترفا. لكن يمكن البدء مع الجمهور، روح أي مهرجان سينمائي وعصبه، هذا الجمهور غاب بشكل كامل عن المهرجان، ف 70% من عروض المهرجان لم يحضرها أي جمهور على الأطلاق، وبقية العروض كان عدد الجمهور الحاضر أقل من عشرة اشخاص للعرض الواحد، علما إن جميع العروض كانت مجانية، المهرجان أيضا، أساء كثيراً بلامبالاته وفوضاه وفشل إدارته،  لعلاقة  يجب أن تكون محترمة بينه وبين شركات الإنتاج السينمائي، وصانعي الأفلام، فهو وعوضا عن دعم هؤلاء، خاصة إن معظمهم يعمل بموارد شخصية او ضمن المنح التي تقدمها الهيئات الفنية الاوربية لإنتاج الأفلام التي تخص البيئة، تجاهلهم المهرجان بشكل كبير، الى الحد الذي إتهم فيه مخرجين وشركات سينمائية المهرجان بخديعتهم. الأمر الذي ألحق عطباً لا يمكن إصلاحه بسهوله بين هذه الشركات والمهرجان، وكرس صور نمطية سيئة عن تقاليد العمل في هذه المنطقة في العالم، وإخرى عن العرب وجديتهم في تنظيم حدث يتعلق بالسينما والبيئة.

التعثر واللامبالاة والفشل رافق وكما ذكرت كل تفصيلة من تفاصيل المهرجان الإخرى، فالكتالوغ والذي كان من المفترض أن يكون جاهزاً قبل أيام من بداية المهرجان، وكما يحدث في كل مهرجانات العالم، وزع قبل حفل الإختتام للمهرجان بساعات، كما تأخرت عروض معظم الأفلام وصاحبت المشاكل التقنية عرض كثير منها، وتم الخلط بين النسخ المخصصة للمشاهدة لإدارات المهرجانات والنسخ الصالحة للعرض الجماهيري، فعرضت أحيانا في الصالات أفلام وعليها تحذير بأن هذه النسخ غير صالحة للعرض الجماهيري !، كما إن إدارة المهرجان قامت بعد أيام من بدايته بتغيير فيلم الإختتام بسبب عرض الفيلم الذي تم إختياره في وقت سابق تجاريا في الصالات السينمائية في الإمارات، وهو يخالف قوانين المهرجان، رغم إن الخطأ كان يمكن تلافيه بسهوله عند عقد الإتفاق مع الشركة المنتجة، والتي تعرف بالتاكيد مواقيت عروض أفلامها دوليا.

كما غلبت الأخطاء والبدائية موقع المهرجان على شبكة الإنترنت، والذي أبرز مشكلة جوهرية في ذهنية إدارة المهرجان، وهي الفقر الفكري وغياب الأبداع والخيال، وهذا يتكشف في التفاصيل الصغيرة مثل النصوص السطحية التي كتبت عن المهرجان، الى الإختيارات الفنية للأفلام، والتي بالإضافة الى قدمها، وكما سأفصل لاحقا، كان عدم ملائمة قسم منها للعرض في مهرجان للبيئة، وهو الأمر الذي إشتكت منه لجنة تحكيم الأفلام القصيرة والطويلة.

غياب الخيال ذلك، جعل الإنجاز الأكبر للمهرجان، والذي روجت له إدارة المهرجان بشكل كبير إعلامياً، هو حضور ممثلتين مصريتين هما ليلى علوي ويسرا، رغم إن مهرجانا بيئيا يعد الأول في الإمارات يحتاج لمقاربة خاصة، بخاصة لعلاقته من الجمهور الموجود في المدينة والبلد الذي يقام فيه، والذي يتألف في قسم منه من الأجانب وغير العرب، والذين لا يعرفون ولا يهتمون لحضور ممثلتين مصريتين، حضور هاتين الممثلتين لم يدفع بجمهور جديد للصالات، وكانت الممثلتين اللتين تحولتا للتلفزيون في السنوات الاخيرة وحيدتين أحيانا في صالات فارغة.

 التجربة الشخصية

إنضممت لفريق العمل في المهرجان في شهر يناير من هذا العام وبعد إتفاقي مع الصحفي المصري محمد منير مدير المهرجان، وكانت مهمتي المساعدة في إيجاد أفلام للمسابقتين الطويلة والقصيرة، بالإضافة الى إستحداث برامج جانبية في المهرجان، بالنسبة للشق الاول، إقترحت مجموعة من العناوين الجديدة والمتنوعة، بعضها لم يدخل دائرة المهرجانات السينمائية من قبل، وبعضها من نتاجات القنوات التلفزيونية الاوربية المهمة وغير المعروفة حتى للجمهور المتخصص. سريعا عرفت إن مهتمي ستكون صعبة بل مستحيلة، فالإختيارات التي رشحتها لم يتم الأخذ بمعظمها، ليس بسبب إختلاف وجهات النظر ( كان من الرائع لو كانت هناك أي وجهة نظر في المهرجان على الاطلاق)، لكن اللامبالاة نفسها كانت العائق الوحيد، فمجموعة الأفلام التي اختارها الإدارة الفاشلة والتي وجدتها عند التحاقي بالمهرجان، كانت في معظمها من نتاجات أعوام 2011، بل إن بعضها من عام 2009 ( للتذكير نحن في عام 2013)، وعندما حاججت بإننا يجب أن نأخذ الأفلام الحديثة، بخاصة إن أفلام البيئة والتي تستند على بحوث علمية تَقدّم بسرعة قِدّم تلك البحوث، جاء الجواب بأن الأفلام الحديثة، والتي بذلت جهود كبيرة لإقناع أصحابها بإرسال نسخ منها، سيتم إختيارها للدورة القادمة، خوفا من أن تختفي أفلام البيئة الجديدة من نتاجات العام القادم ولا تجد الدورة القادمة ما تعرضه !!. هذه الذهنية هي التي كانت تخطط وتدير مهرجانا سينمائيا يفترض إنه يتابع ويلاحق الجديد!!

بالنسبة للبرامج الخاصة، فلقد أقترحت ثلاثة برامج هي : الغذاء، الفقر، والاحتفال بالطبيعة (والتي جذبت أفلامها الجمهور الأكبر في المهرجان)، وبدأت العمل عليها رغم المصاعب الجمّة، والتي كانت في مجملها بسبب الإدارة الفاشلة للمهرجان، فبعد أن أتفق مع شركة سينمائية على عرض فيلم ما، مقابل دفع رسوم مشاهدة قليلة، تعتبر معروفة لكل المهرجانات السينمائية، أسمع لاحقا بأن المهرجان غير قادر على دفع 250 دولار رسم المشاهدة، الأمر الذي سبب إحراجات كبيرة مع الشركات المنتجة، ولإني لم أتدخل في الشأن المالي للمهرجان، ولا أعرف ميزانيته، لن اتوسع بموضوع تحديد الأوليات او عن الجانب المالي بشكل عام.

ما حدث للبرامج الخاصة، إنه وبعد الإتفاق مع مجموعة المخرجيين والشركات على عرض أفلامهم ( وكل هذا موثق في رسائل)، ونشر معلومات عن الأفلام في موقع المهرجان على شبكة الإنترنيت، لم يتضمن دليل العروض او الموقع ذاته أي معلومات إخرى عن تواقيت عرض هذه الأفلام او أسماء الصالات السينمائية، وحتى نهاية فترة المهرجان، الامر الذي وضعني مجددا في مواقف محرجة مع المخرجيين والمخرجات، والذين كانوا يطلبون وأحيانا يتوسلون للحصول على مواقيت عرض أفلامهم لينشروه على مواقعهم الالكترونية وعلى صفحاتهم على مواقع التواصل الإجتماعي.

مواقف محرجة 

وعن المواقف المحرجة، هناك منها الكثير، لكن أكثرها إيلاما، تلك التي حدثت مع المخرجيين الذين حضروا مع أفلامهم الى المهرجان، فبعد أن كلفت من إدارة المهرجان، وبعد اليوم الأول من إنطلاقه، بإدارة الحوارات بين الجمهور والمخرجين ( الأتفاق جاء كمفاجاة لي وجزء من الفوضى العامة فالمهرجانات المحترفة تنظم هذه التفاصيل قبل أشهر من إنطلاقها )، واجهنا مشكلة غياب الجمهور، فلا يوجد أحرج من أن تدخل مع مخرج ما الى صالة فارغة ما بدون جمهور، هؤلاء المخرجون والمخرجات الذين قضوا أشهر وسنوات لإنجاز أفلامهم كانوا في أبو ظبي في صالات فارغة. في النهاية، وفي سابقة لكل مهرجانات العالم، إشتركت لجنة التحكيم، والتي كانت تحضر العروض الجماهيرية، في الحوارات مع المخرجين، بالإضافة الى المخرجيين الآخريين الذين حضروا المهرجان.

لا شك إن ضعف الحضور الجماهيري يُشكل إحدى مشاكل المهرجانات السينمائية في الدول العربية، لكن كان يمكن ببعض الجهد والإخلاص جذب جمهور مختلف، مثل طلاب اكاديمية “مصدر” للعلوم في أبو ظبي، او طلبة من كافة الإختصاصات، او من العاملين في منظمات البيئة في أبو ظبي وما أكثرها هناك. لحسن الحظ إن هؤلاء لم يحضروا، فحضورهم  ربما كان يعني نهاية علاقتهم بإي نشاط سينمائي عن البيئة في أبو ظبي، فصف الطالبات الإماراتيات  والذين حضرن مع مدرستهن في اليوم الثالث للمهرجان لمشاهدة الفيلم الروماني ” شيرنوسايوريوس ” تركن الصالة بعد خمس دقائق فقط، بسبب سوء الفيلم الفني والتقني وعدم صلاحيته للعرض. الأمر الذي يُفجر  حسرة حقيقة، فمن يقنع هؤلاء الطالبات بحضور مناسبة مشابهه في المستقبل؟ هي خسارة حقيقية للجميع.

طبعا لا يعرف مدير المهرجان او إدارته بهذه التفاصيل، من أين لهم أن يعرفوا وهم لم يضعوا قدما واحدة في اي صالة سينمائية أثناء المهرجان، من أين لهم أن يعرفوا أن المخرجة الهولندية ستيلا فان فورست فان بيست تركت الفيلم المعروض وذهبت الى للتعرف على  أول مشاهد يدخل أي عرض من المهرجان ( المشاهد الأول شرف في اليوم الثالث من المهرجان)، ومن أين للإدارة أن تعرف حنق المخرجة التركية روا أرزو كوكسال كودو (فاز فيلمها بالجائزة الاولى في المهرجان) على المهرجان  بسبب ما وصفته بالاحتيال الذي حدث لها، فهي طلبت أن تحضر عرض فيلمها في المهرجان لتكون حاضرة في الحوار الذي يدور بين المخرج والجمهور، لكن الإدارة ردت عليها وقتها  بأن الفيلم لن يعقبه اي حوار وان دعوتها للمهرجان ستكون في اليوميين الآخريين فقط من المهرجان . طبعا لم أجروء  أن أخبر المخرجة التركية المعروفة، بأن فيلمها لم يحضره أي جمهور على الأطلاق.

 الجانب الصحفي

وحتى الجانب الصحفي، والذي كان من المفترض أن يتميز عن الجوانب الاخرى بسبب خلفية مدير المهرجان محمد منير الصحفية، غلب عليه الفوضى والخفّة، فيمكن أن يغفر أن يقوم المهرجان بتهويل حجم نشاطاته، وبأن يصور الصفوف الأمامية لحفل الافتتاح والختام وعدم تصوير القاعة الخالية، لكن لا يمكن غفران التسطيح الذي غلب على إداء القسم الصحفي للمهرجان، والذي أصدر بيانات صحفية لا تنسجم أبداً مع طبيعة المهرجان السينمائي، بيانات مثل ” ليلى علوي تزور كورنيش أبو ظبي”، او “يسرا تتقدم الحضور في حفل الإفتتاح “، وكأن القضايا التي تقدمها افلام المهرجان لا تَصلح أن تجذب الجمهور، أو إن الجمهور والصحافة بهذه السطحية والتفاهة، الذي يمكن أن تحركه ممثلة مصرية لكي يتجه الى صالة تعرض أفلاماً تسجيلية.

كما كرس المهرجان تقاليد سيئة من علاقة المهرجان مع المادة المكتوبة عنه، والتي تغلب على كثير من المهرجانات السينمائية العربية، فهو وجه دعوة الى مجموعة من الصحفيين (جلّهم من المصريين)، لكن هؤلاء لم يحضروا عرضا واحدا من عروض المهرجان، وعندما إشتكيت الى إدارة المهرجان بأننا نحتاج وجودهم في الصالات من أجل أن لا تبقى الصالات خالية بالكامل، كما يمكن أن يثروا الحوار مع المخرجيين بعد العروض، جاء الرد من أحد العاملين في المهرجان، بأن المهم أن  يكتب هؤلاء عن المهرجان، وليس مهما كثيرا أن يحضروا العروض!!

هذا الشخص والذي يحمل لقب مدير عمليات المهرجان (لاحظوا فداحة المهمة)، لا يقرأ على الأرجح تلك التغطيات الصحفية، وبالتاكيد لا يعرف أهمية المادة الصحفية المبدعة في إلهام القراء على التفاعل مع نشاطات فنية وثقافية. أحد الصحفيين المصريين الذين كانوا من ضيوف المهرجان ولم يحضر عرضا واحدا من أفلام المهرجان، كتب في صحيفته المصرية، التي كانت ذات يوم منارة في الشرق قبل أن تتحول لنموذج لكل أمراضه، مادة بالعنوان التالي “بمشاركة مصرية كبيرة.. إنطلاق فاعليات أبوظبي الدولي لأفلام البيئة”، طبعا لا أحد من الصحيفة قرأ المادة الخبرية السيئة، ولن يقرأها كثير من القراء، ولا أحد سيحاسب الصحفي ويسأله عن أي مشاركة مصرية كبيرة يكتب وهناك فيلم واحد لمصر في المهرجان، إعتبر كل من شاهده بان موضوعته لا تنسجم مع طبيعة  المهرجان.

ليس الفشل المدوي هذا هو نتاج قلة خبرة او يندرج تحت مصاعب الدورة الأولى، هي مشكلة ذهنية وإخلاص وحب للسينما وتفاني للموضوعة التي يهتم بها المهرجان، وليس هناك أملاً كبيراً بأن المهرجان سينضج يوما مع وجود المجموعة التي خططت للدورة الاولى خلفه، فالعقلية الإدارية البدائية ومجموعة الفاشليين الذين نظموا الدورة الاولى أنجزت عملها بأسلوب ” رفع العتب”، اي عندما يكون العنوان أهم من المحتوى، والضجيج للتغطية على الخواء الفكري، وحضور “ليلى علوي” أهم من موضوعات الأفلام الجديّة، عندها لن يكون من المهم أبدا أن يتم إدراج أفلام حديثة الإنتاج مرتبطة بأهداف المهرجان، او يتم الإهتمام بجذب جمهور. هذه الذهنية والتي قتلت السينما والثقافة في بلدان عديدة هي نفسها كانت موجودة في مهرجان أبو ظبي الدولي لأفلام البيئة.

وأخيرا وإذا أخضعنا المهرجان برمته لمقايسس النجاح والفشل والربح والخسارة، وأعتبرنا إن المهرجان يحقق اهدافه عندما يجذب جمهورا، ويحرك نقاشا مهما عن البيئة في المدينة، وإذا قسنا ذلك مع التكاليف التي صرفت على إقامته، من مبالغ الجوائز ودعوات الصحافة والمخرجيين ومكيفات الهواء التي كانت تحرق الطاقة في صالات السينما الفارغة، نصل الى نتيجة مؤلمه بأن مهرجانا كهذا، والذي يَحمل شعار زيادة وعي الجمهور بقضايا البيئة، إنتهى بتحوله لمهرجان عدو وملوث للبيئة.

* ناقد سينمائي من العراق يقيم في هولندا

Visited 15 times, 1 visit(s) today