أوراق سان سباستيان (3): “كارميلي”.. سينما الباسك تتألق
أمير العمري- سان سباستيان
اهتمت الدورة الحالية من مهرجان سان سباستيان كثيرا بعرض الكثير من الأفلام الإسبانية الجديدة. ولان المهرجان الدولي يقام في عاصمة إقليم الباسك، شاهدنا أفلاما كثيرة تعرض مصحوبة بترجمة إنجليزية وفي الوقت نفسه، ترجمة إلى اللغة الباسكية. وهو أمر جدير الاحترام والتقدير، فاحترام لغة سكان المدينة والإقليم ليس عيبا ولن تجد أحدا يقيم الدنيا ويقعدها كما يحدث في بلدان كثيرة في العالم العربي تحظر وتعادي لغات الأقليات، وهذا على الرغم من وجود الحركة الانفصالية المتجذرة في الباسك.
ولعل هذا الاهتمام تجلى في هيمنة نسبة كبيرة من الأفلام الباسكية على مجمل ما عرض من أفلام إسبانية في هذه الدورة وهي كثيرة وتدخل في برامج وأقسام متعددة. ولعل من أهم هذه الأفلام الباسكية فيلم “كارميليي” Carmele فجميع من شاركوا فيه من الممثلين المعروفين لدى سكان المنطقة، وكذلك مخرجه بل والأهم، موضوعه. ولكن رغم خصوصية الشخصيات والموضوع في هذا الفيلم إلا أنه لا ينفصل عن الهم الإسباني العام، والتجربة الأشمل التي عاشتها إسبانيا كلها خلال ديكتاتورية الجنرال فرانكو.
“كارميليي” Carmele عمل شديد الطموح فنيا وإنتاجيا، من إخراج أسير ألتونا، وهو الذي كتب له السيناريو وظل يكافح منذ أربع سنوات لإنجاز هذا العمل الكبير، المبهر، الذي يتناول جانبا مهما من تاريخ إسبانيا، استنادا إلى رواية بعنوان “حان الوقت أن نستيقظ معًا” للكاتب كيرمين أوريب وهو كاتب يكتب بلغة الباسك، وقد أعد روايته عن الأحداث الحقيقية التي شابت حياة “كارميليي أوريستي وعائلتها.

كارميليي ممرضة شابة من مدينة بلباو، تنتمي لعائلة فقيرة، كافحت كثيرا من أجل الصمود في وجه الفقر، وإسناد عائلتها، ووالدها صائد الأسماك. هذه العائلة انتمت بطبيعتها والتزامها الطبقي إلى اليسار، وانضمت إلى النضال ضد الديكتاتورية بعد انتصار قوى اليمين بقيادة الجنرال فرانكو وفرض حكم الديكتاتورية على إسبانيا. وبسبب اعتقال الكثير من عناصر حركة المقاومة، اضطرت كارميلي للجوء مع عائلتها إلى فرنسا، بمساعدة قيادة المقاومة في منطقة الباسك.
وفي باريس ستتعرف على شاب، عازف ترومبيت موهوب كثيرا، هو أيضا مثلها، من اللذين لجأوا الى فرنسا هربا من مطاردة السلطات الفاشة، ولمع نجمه كثيرا كعازف أول. تنشأ بينهما قصة حب ملتهبة تتوج بالزواج، لكن مع غزو الجيش الألماني فرنسا يضطر الزوجان للذهاب إلى فنزويلا حيث يواصل الرجل العمل بتدبير من قيادة المقاومة وعملائها، وتعثر كارميلي على عمل في التمريض.
لابد انه سيأتي وقت وتصبح العودة حتمية الى الوطن، لاستمرار المقاومة خصوصا وأن الأمريكيين يعدون الثوار بإسقاط نظام فرانكو والانتصار للديمقراطية. والآن بعد أن أصبح الحلفاء على مقربة من النصر على ألمانيا النازية، يكثف الجميع جهودهم من أجل إسقاط فرانكو، لكن ما يحدث أن الأمريكيين يتخلون عن شركائهم الإسبان، ويعلنون تأييدهم لنظام فرانكو بعد الحرب بدعوة التصدي لخطر الشيوعية، لتجد حركة المقاومة في الباسك نفسها في مهب الريح بل ويعتقل أفرادها واحدا بعد الآخر ومن بينهم عازف الترومبيت زوج كارميلي التي تكون قد أنجبت طفلين وأصبحت أيضا حاملا في طفل ثالث.

بعد سنتين يخرج من السجن، ويصبح أمامه خياران واضحان: الولاء للعائلة أم الولاء للتنظيم. كارميلي التي ظلت تكافح وحدها بمساعدة والديها الفقيرين في رعاية طفليها لمدة سنتين، تقترح العودة إلى بوليفيا لان السلطات الإسبانية ترفض منحها ترخيصا بممارسة مهنة التمريض، وزوجها الثائر يصر على ضرورة استكمال المقاومة رغم وجوده تحت الرقابة المشددة. فما الذي يمكن أن يحدث وكيف سيكون مصير كارميلي وأسرتها الصغيرة؟
رغم الموضوع السياسي الواضح إلا أن جمال الفيلم ينبع من كونه لا يجعل من السياسة البعد الطاغي المفروض على الأحداث، وكما أنه يتناول جانبا من تاريخ النضال ضد الديكتاتورية، فهو يأخذنا أيضا تجاه جانب من تاريخ الموسيقى والغناء، من الأوبرالي والكورالي البديع والرقص التعبيري حينما كانت كارميلي تترك في فرقة صغيرة لهذا النوع قبيل الفرار الى فرنسا، إلى أجواء الملاهي الليلية التي يعزف فيها زوجها وفيها يلتقي أيضا بعض من يريدون تطويعه لتحسين صورة النظام بعد عودته إلى الباسك، كما يتردد على الملهى الليلي جواسيس يعملون لصالح الأمريكيين، ورجل أعمال ألماني مرتبط بالنظام النازي، والسفير الإسباني في فنزويلا الذي يرتبط بصداقة متينة مع فرانكو نفسه.

لن يصل الفيلم بالطبع إلى ما يشبه فيلم مثل “ميفيستو” لاستفان سابو المجري، ففي قلب الفيلم ليس عازف الترومبيت بل كارميلي الاتي تنعكس عليها جميع مشاكل الفترة وإحباطاتها وكيف أصبحت مسؤولة عن عائلة لا تملك شيئا.
صور رائعة، تصل إلى مستوى الشعر. لقطات صامتة، وتركيز على المشاعر كما تتبدى في العيون وعلى الوجوه من خلال اللقطات القريبة، وألوان زرقاء وأضواء تنعكس على صفحة الماء، وانتقالات من ظلام الغرف السرية التي تجري فيها اجتماعات تنظيم المقاومة إلى الأضواء اللامعة داخل الملهى الليلي، ومن منزل العائلة وغرفة المعيشة، إلى الكنيسة والمدرسة والفرقة الغنائية التابعة لها، ورغم الأجواء الملتهبة في الثلاثينيات والأربعينيات إلا أننا لا نشاهد مناظر للحرب والقتال، لكن هناك مشهد واحد فقط لاستعراض القوات النازية في باريس.
إيقاع متمهل، تصوير بديع لحركة الأجساد، تصميم مناظر يراعي أدق تفاصيل الفترة: الأزياء وتصفيفات الشعر وأنواع السيارات، والأعم بالطبع، الموسيقى والأغاني التي تعود سواء من خلال الغناء العاطفي أو الذي ينبض بالحنين إلى الوطن، والرغبة الجماعية في التضحية.

الفيلم لا يدين بطله الذي يفضل الاستمرار في النضال ولو أدى إلى موته، على الفرار للخارج لإنقاذ عائلته، ولا ينحاز لكارميلي ضد وزجها، بل يحقق التوازن بين الحالتين، لكي يبرز نوعية التضحيات التي قدمها البسطاء في تلك الفترة من أجل إسبانيا، ومن أجل حرية الباسك أيضا، ففي الفيلم يتردد بوضوح شديد، الحديث عن حكومة سرية لإقليم الباسك تشكلت وكانت تجري مفاوضات مع لندن وباريس بل وتقدم للحلفاء معلومات عن ما يجري في كواليس نظام فرانكو، مقابل وعود بتحرير الباسك من قبضة الحكومة المركزية. ولعل السبب في السماح بمثل هذا الموضوع الشائك، أن هناك بالفعل، عدة أحزاب تطالب باستقلال الباسك، تعمل كلها في إطار الشرعية الديمقراطية في إسبانيا.
ومن دون الأداء العبقري الفذ من جانب الممثلة الإسبانية الباسكية جون لاسبير (الحائزة من قبل على جائزة جويل لأفضل ممثلة في المسابقة الوطنية) في جدور كارميلي، لا يكون الفيلم على ما هو عليه، من قوة، ونبض وحساسية ورونق، فهي تعبر بصدق وتتقمص وتعيش تحت جلد الشخصية، وتتفاعل مع الأحداث بحيث تنقلنا من العصر الحالي إلى ذلك الماضي الذي كان بكل قسوته، تنجح في التعبير عن الحب والخوف، وعن التصميم والتحدي والإصرار على مواصلة الطريق في جميع الأحوال ورغم كل ما تمر به من ظروف قاسية.

