أوراق سان سباستيان (1): مفارقات الحياة
أمير العمري- سان سباستيان
كان أول الأفلام الروائية الطويلة التي شاهدتها في مهرجان سان سباستيان الـ73 الذي يقام في المدينة الإسبانية الجميلة عاصمة إقليم الباسك، هو الفيلم الفرنسي “حياكة الأزياء” Couture للمخرجة أليس وينوكور، من بطولة أنجلينا جولي، ولويس غاريل، وفنسنت ليندون. ولكن الفيلم يضم مجموعة أخرى من الممثلات الشابات في أدوار تتقاطع مع الأدوار الرئيسية وتصب جميع الأدوار معا في تلك اللوحة التي أرادت المخرجة تجسيدها لعالم صناعة الأزياء الراقية، قبيل المشاركة في العرض الباريسي السنوي الكبير، إلا أن الفيلم الفرنسي لا يحاكي أو يسير على غرار الفيلم الأمريكي “جاهز للارتداء” Prêt-à-porter للمخرج المرموق الراحل روبرت ألتمان من عام 1994. فهو لا يقدم شخصياته في صورة ساخرة، تكشف زيف وهشاشة العالم الذي يضمها، ولا يتعرض لنقد الإعلام المخصص في الموضة والأزياء، كما كان يفعل ألتمان في فيلمه، بل يتناول عالم الموضة والأزياء من خلال مجموعة قصص متداخلة حول خمس شخصيات، تعكس في الحقيقة، ما وراء السطح الزائف للأشياء من مآس ومعاناة ورغبة في البحث عن بديل لتحقيق معنى العيش، معنى الحياة، معنى الاختيار.
من جهة أخرى في أحيان كثيرة تبدو قصص الفتيات الخمس منفصلة، رغم أنها مجتمعة تمنحنا صورة عن معاناة العاملات في مجال الأزياء من وراء الكواليس: هناك عارضة شابة جاءت من أوكرانيا إلى باريس لكنها مازالت تعيش أجواء الرعب من الحرب الدائرة هناك، وهناك فتاة أرى تعمل في حياكة الأزياء بطريقة فنية مبهرة، وأخرى قادمة من نيروبي التي هربت إليها مع أسرتها هربا من الحرب في جنوب السودان، وهي تستعد لكي تصبح وجها جديدا مميزا في عالم الأزياء وعروض الأزياء، وهناك فتاة الماكياج التي تريد أن تصبح كاتبة، وعندما تعرض على خبير متخصص في تقييم الأعمال الأدبية روايتها، يخبرها أنها غير مقنعة، ولكنها تقول له إنها حقيقية يكون رده إن كونها حقيقية (أي عن شخصيات حقيقية) لا يضمن أن تصبح مقنعة. وهي تبدأ في تسجيل ما تراه من شخصيات وتبدو بتعليقها الصوتي من خارج الصورة، في معظم المشاهد كما لو كانت هي التي تروي لنا أحداث الفيلم وتعلق عليها.
ولكن هل هناك أحداث؟ الإجابة هي بالنفي، فالمخرجة الفرنسية وهي التي اشتركت أيضا في كتابة السيناريو، فضلت أن تبقي الفيلم في سياق مفتوح، أي من دون حبكة ولا تصاعد درامي.

تقوم أنجيلينا جولي بدور مخرجة سينمائية هي “ماكسين” التي جاءت إلى باريس لإخراج فيلم تسجيلي قصير عن عالم الأزياء بغرض الترويج للعرض الكبير المنتظر. لكنها تعتزم أيضا البقاء في العاصمة الفرنسية بعد انتهاء العرض، لإخراج فيلم روائي طويل من الأفلام التي تخصصت في إخراجها وهي أفلام الرعب الأمريكية الرخيصة.
وماكسين مطلقة ولديها ابنة في الخامسة عشرة من عمرها تركتها وراءها في أمريكا. وهي تبدو منبهرة بما أتيح لها من إمكانيات تصوير كبيرة لمجرد إنتاج هذا الفيلم الدعائي القصير الذي تخرجه على غرار أفلام الرعب التي تخصصت فيها والتي تنتمي كما تقول للسينما المستقلة ذات الميزانيات الضعيفة.
هناك عبارة تقولها بطلة الفيلم أنجلينا جولي عندما يسألها رجل يقوم بعمل فيلم تسجيلي قصير عن العرض المنتظر للأزياء: ماذا تعني الأزياء عندك؟ فهي تجيبه: لا شيء.. ولكنها ضرورية. وفي سياق آخر تقول هي نفسها لصديقها المصور “لويس غاريل” الذي بتصوير الفيلم الذي تخرجه: هل تعتقد أننا مسؤولون عن مصائرنا؟ مسؤولون عما نصل إليه في الحياة؟
ثقة ماكسين في نفسها وفي المستقبل، تنهار عندما يخبرها الطبيب الفرنسي (يقوم بدوره فنسنت ليندون) أنها مصابة بسرطان الثدي ولابد من إجراء جراحة لها وقبل ذلك يجب أن تخضع للعلاج الكيماوي، ولكنها تتردد كثيرا وتقاوم، فهي تود أن تستمر في العمل، وتتطلع لتحقيق ما تعاقدت عليه أي فيلم الرعب الفرنسي الطويل.

لا شك أن أداء أنجلينا جولي يرتفع عندما نصل إلى هذه النقطة في حياة الشخصية التي تلعبها، فأنجلينا نفسها سبق أن مرت بتجربة استئصال ثدييها، بعد أن وجد لديها ما يشير إلى احتمال كبير لتطور في الخلايا يؤدي حتما إلى الإصابة بالسرطان، وهي تعرف جيدا كيف يمكن أن تشعر امرأة تفور بالحياة، وتتشبث بعملها وتضحي من أجله بالكثير، عندما يصبح مطلوبا منها التوقف عن العمل لفترة قد تطول، بل وكيف تبدو مترددة حتى في إطلاع ابنتها المراهقة الشابة على الأمر.
إنها تحاول في لحظة تشبث بالحياة أن تقيم علاقة جنسية مع صديقها المصور السينمائي الشاب الذي لا يخفي إعجابه بها، لكنها تفشل في المرة الأولى لعدم إحساسها بالاندماج وتفكيرها السوداوي في مصيرها، ثم تنجح في المحاولة الثانية عندما توقن أن الحياة أبقى من الموت، وأننا جميعا ماضون إلى الموت كما يقول لها الطبيب.
تفاصيل مرض ماكسين وما تمر به من اختبارات واستعدادات للعملية الجراحية أو للعلاج بالمواد الكيماوية، وكيف تترك التصوير فجأة وتختفي دون أن تخبر أحدا، لزيارة الطبيب الفرنسي الذي نصح به طبيبها الأمريكي في مكالمة تليفونية معها لم يشأ خلالها أن يخبرها بحقيقي حالتها المزعجة، تبدو كثيرة في حد ذاتها، لكنها تل منفصلة عن سياق قصص الفتيات اللاتي يقمن بالاستعداد لعرض الأزياء الكبير الذي يمكن أن يغير حياة البعض منهن، أو يعتبر استمرارا لحياة لا معنى لها لدى البعض الآخر من العاملات وراء الكواليس، في الماكياج والخياطة والتصوير.
الفيلم لا غبار عليه من ناحية التحكم في الأداء والانتقال بين المواقع المختلفة والتصوير البديع لمشهد العاصفة التي تهب فتفسد تماما بل وتدمر عرض الأزياء العالمي الذي كال الاستعداد له، وكأن الفيلم يريد أن يقول لنا كما أن الحياة يمكن أن تنتهي في لحظة، كذلك ما كنا نأمله لأنفسنا ونريد أن نحقق من حلاله ذواتنا، لكن هذا الدمار يوحي أيضا بل يمكن أن يصبح بداية لحياة جديدة عند أولئك الفتيات الشابات في عمر الزهور التي لم تبدأ حياتهن بعد في اتخاذ مساراتها.
