أمير العمري عن فيلم “حبيبي راسك خربان”
أمير العمري- فينيسيا
“عين على السينما” في 5 سبتمبر 2011
نعيد نشر هذا المقال هنا بعد أن نشرنا مقال سمير فريد الذي نشر في “المصري اليوم” بعد هذا المقال، عن نفس الفيلم، ويكاد يتطابق مع مقالنا هذا فيما وصل إليه. وهدف إعادة النشر هو أن يطلع القاريء على أن الجوائز ليست معيارا لقيمة الفيلم، وأن فيلما رديئا يمكنه أن يحصل على أكبر الجوائز، فقد فاز هذا الفيلم بالجائزة الكبرى الذهبية في مهرجان دبي السينمائي 2011 وهي جائزة ذات قيمة مالية ضخمة. وبعده اختفى الفيلم واختفت مخرجته.
عرض في قسم “أيام فينيسيا” في الدورة 68 من مهرجان فينيسيا السينمائي، فيلم يحمل عنوانا غريبا هو “حبيبي راسك خربان” للمخرجة سوزان يوسف. وهو فيلمها الروائي الأول، وقد حصل على تمويل من جهات عدة في هولندا والولايات المتحدة وفلسطين والإمارات، ومن الأخيرة حصل تحديدا على منحة دعم من مؤسسة “إنجاز” التابعة لسوق مهرجان دبي السينمائي.
كل هذه ولاشك جهود لا بأس بها على الإطلاق، ولكن السؤال البديهي الذي يفرض نفسه علينا هو: هل الجهات الداعمة جميعها ومنها مؤسسة فولبرايت التي قدمت منحة لمرحلة كتابة السيناريو، راجعت سيناريو الفيلم جيدا ورأت أنه متماسك ويصلح لعمل فيلم، أم أن المخرجة قدمت لتلك الجهات سيناريو مكتوبا جيدا، لكنها قدمت شيئا آخر أثناء التصوير، ثم تولى المونتير الذي قام بتوليف الفيلم تدميره لكي يصبح ذلك المسخ السينمائي الذي شاهدناه؟!
سوزان يوسف ليست فلسطينية، فقد ولدت في حي بروكلين بنيويورك لأب لبناني، وأم سورية. وعملت لفترة قصيرة كصحفية في بيروت ثم عادت للولايات المتحدة حيث درست السينما في مدرسة تدعى UT وأخرجت عددا من الأفلام القصيرة، لكننا لا نعرف عناوين هذه الأفلام، فهي ليست منشورة في الموسوعة السينمائية العالمية على شبكة الانترنت، لكن تحقيقا عن سوزان يوسف في مجلة Filmmaker بتاريخ 20 يوليو 2010، جاء فيه “إن أفلام سوزان يوسف القصيرة الأولى التي عرضت في دائرة مهرجانات الشواذ والشاذات جنسيا gay and lesbian كما في دوائر الفيلم التجريبي، أظهرت تأثرها ببعض الأعمال السينمائية مثل أفلام كياروستامي وفاسبندر وريتشارد لينكلاتر”.
وفي عام 2002 صورت سوزان يوسف فيلما تسجيليا في غزة، وهناك كما تروي، وقعت في حب شاب فلسطيني، لكن العلاقة معه لم تستمر أو تتطور كما تقول، وإنه نصحها بالذهاب الى هولندا للبحث عن تمويل لمشاريعها، وهناك تزوجت من شاب آسيوي يدعى مان كيت لام، هو الذي قام بمونتاج فيلمها الجديد (الذي لا يعرف لغته). وقد أصبحت بالتالي تقيم بين هولندا ونيويورك. وعندما أرادت العودة الى غزة لتصوير “حبيبي راسك خربان” لم يسمح لها حسبما تقول، دون أن توضح من الذين منعوها: الفلسطينيون في غزة أم السلطات الإسرائيلية، رغم أنها تحمل الجنسية الأمريكية. وعندما لم تتمكن من التصوير في غزة قررت تصوير الفيلم في الضفة الغربية!
وهي تصف غزة في مقابلة منشورة بأنها مكان شديد “الرومانسية” بدرجة غير معقولة، في حين أن كل من يعرف شيئا عن غزة ولو من خلال ما ينشر يوميا من صور في الصحف، يعرف أنها أبعد الأماكن في الأرض عن الرومانسية، فكأن سوزان يوسف تتكلم عن مقاطعة توسكاني في الريف الايطالي مثلا!!.. والأكثر من ذلك أنها عندما قررت تصوير الفيلم في الضفة بدلا من غزة، وفقدت بذلك أهم ما يميز المكان في الفيلم، وتحديدا في هذا الفيلم، استعانت كما تقول “بممثلين فلسطينيين يحملون الهوية الإسرائيلية” لكي تبعد نفسها عن أي مخاطرة.
ولكن بعد كل هذه الطرق والتحايلات كيف جاء فيلمها، الذي تشكو من أنه صنع بميزانية “محدودة للغاية” لم تسمح بزيادة عدد أعضاء فريق العمل (علما بأن الفيلم صور بكاميرا الفيديو الرقمية). ومن المقرر أن يذهب الفيلم بعد عرضه العالمي الأول في فينيسيا، الى مهرجان تورنتو!
تطمح سوزان يوسف إلى إعادة تقديم “مجنون ليلى” في السينما من خلال قصة حب بين شاب وفتاة، تدور بين خان يونس وغزة، وهي فكرة جيدة وجريئة ويمكن إذا كتبت جيدا، ووقف وراءها مخرج يمتلك “رؤية” فنية حقيقية، أن يصنع منها عملا جيدا.
هناك قيس بن الملوح (هكذا تطلق عليه في الفيلم وهو اسم مطابق بشكل يدعو للسخرية من قيس في القصة الأصلية) وهو شاب مشعث الشعر، نحيف البنية، يعمل في البناء، ويقيم في مخيم خان يونس. وهو مغرم بـ”ليلى” التي تنتمي لعائلة ميسورة الحال تقيم في غزة. ويتقدم قيس لخطبة ليلى بضغط من جانبها لأن أهلها يريدون تزويجها من قريب لها، طبيب فلسطيني درس في أمريكا وعاد مؤخرا الى غزة لكي يساعد “هذا البلد الفقير- (حسب نص كلماته في الفيلم!). ولكن والد ليلى يرفض طلب قيس الزواج من ابنته لأنه لا يمتلك مسكنا مستقلا بل يقيم مع أسرته في المخيم، كما أنه يجده غير ملائم لها، ويقوم بطرده شر طردة من منزله رغم احتجاج ليلى.
ليلى أيضا ترغب في استكمال تعليمها الذي قطعته في جامعة بيرزيت في الضفة الغربية حيث التقت هناك بقيس، الذي قطع أيضا تعليمه لكي يساعد أهله. وليلى مرغمة على ارتداء الحجاب أو حتى النقاب لكي تتفادى التعرض للمشاكل من جانب الإسلاميين المتشددين في غزة. وهي رغم ذلك تجد وسيلة أو أخرى لكي تلتقي بقيس أو تبعث له رسائل عن طريق وسيط هو طفل من أطفال الحي.
وقيس من ناحيته لا يكف أبدا عن كتابة أشعار الحب والغزل في ليلى على كل جدران المدينة.. ووالد ليلى يستشيط غضبا بسبب ما يراه تشويها لسمعة ابنته ويريد أن يزوجها في أقرب وقت. لكن خطيبها الطبيب يُقتل في حادث اطلاق نار من جانب أحد المستوطنين على سيارته.
بطبيعة الحال نحاول في هذه العجالة العثور على موجز “منطقي” لأحداث الفيلم أو تسلسل مشاهده ولكن بلا أدنى طائل، فالفيلم يفتقد الى الوحدة الفنية، والى التسلسل، والى الحبكة، في حين أنه لا يحلق خارج البناء التقليدي، بل يظل يراوح مكانه، والشخصيات لا تتطور، ولا تنضج الحبكة أبدا، والصراع السياسي غائب تماما عن الفيلم، وكل اهتمام المخرجة- المؤلفة يتركز فقط في تصوير كيف أن بعض الشباب المتشدد دينيا يهددونها وحبيبها قيس بعد أن يعثرون عليهما معا في منطقة خالية.. ولكنهم سرعان ما يتركون الاثنين بعد أن يتعهدا بعدم تكرار فعلتهما (أي الاختلاء!).
وبعد أن كان هدف ليلى الذهاب للضفة الغربية للتقديم للجامعة لاستئناف دراستها كما تقول لوالدها الذي يسمح لها بالخروج وهي ترتدي النقاب، نراها تذهب الى قيس قرب شاطيء البحر، لكي تنتقل معه بعد ذلك الى مسكنه (لا نعرف لماذا فالفيلم تغيب عنه كل مشاهد الحب الممكنة حتى مجرد اللمس، كما تغيب عنه المناجاة العاطفية على أي مستوى، بل يتحول الى تصوير عجز حبيبين عن الزواج في ظل واقع يراد لنا أن نشعر بأنه خانق في حين أننا لا نلمح أي خصوصية لتجربة الحب في هذا المكان تحديدا، بل يظل الفارق الطبقي بين الاثنين هو الأساس، وهو ما سبق تناوله في الكثير من الأفلام.
وعندما ترغب المخرجة في تقديم الجانب الغائب عن معظم مشاهد فيلمها ولو على استحياء، أي الجانب الإسرائيلي، تقفز فجأة من رغبة ليلى في الذهاب للضفة للدراسة، الى رغبة قيس في الهجرة الى هولندا.. هكذا فجأة نراهما يحاولان المغادرة للسفر الى هولندا. يستجوبهما ضابط إسرائيلي بالطبع، ويتساءل عن التأشيرة التي حصل عليها قيس (لا نعرف هل كانت هناك أي فرصة لكي تحصل ليلى على تأشيرة لهولندا أيضا ولو مزيفة!).. ويكتشف الإسرائيلي أن التأشيرة مزيفة، ويقول لهما إن ما معهما من نقود (400 شيكل) لا تكفي، ويعرض أن يمنحهما تأشيرة ومالا ويتيح لهما فرصة للزواج في حالة موافقتهما على التعاون مع السلطات الإسرائيلية وتزويدها بأسماء نشطاء “المقاومة” في المخيم. وعلى حين يكاد قيس يقبل العرض، ترفضه ليلى بإصرار. وتتعرض بالطبع للضرب العنيف من جانب الضابط الإسرائيلي.
ولكن فجأة نجدها في المشهد التالي مباشرة في سيارة تاكسي مع قيس، وهي في حالة صحية جيدة للغاية دون أي أثر لما تعرضت له، ويفترق الإثنان، ثم نراها تطرق باب منزل فخم فيفتح لها عمر.. خطيبها الذي فهمنا من قبل أنه توفي في حادث اطلاق النار. ويمكن لأي طفل مبتديء في العالم أن يفهم أنه ربما لم يمت، وأن ليلى ربما تكون قد استسلمت أخيرا لفكرة الزواج منه. لكننا في المشهد التالي مباشرة نراها وهي تتجه ناحية البحر لكي تغرقها المياه مع قيس الذي يرقد مثلها على الشاطيء في لقطة مجازية تقول لنا إن الاثنين ينتهيان نهاية تراجيدية.. في خليط بدائي لا يليق حتى بمسرحيات تلاميذ المدارس الابتدائية.
لا تعرف المخرجة كيف تدير الممثلين أمام الكاميرا، ولا تعرف متى تنتقل من مشهد الى آخر، ومن لقطة الى أخرى، فقد ينتهي الممثلون من أداء الحوار المكتوب لهم وينتظرون أن تنتقل المخرجة للمشهد التالي ولكنها لا تفعل بل تتأخر كثيرا قبل الانتقال. وعندما تنتقل تنسى أنها سبق أن قدمت شيئا مخالفا لما ستقدمه في المشهد الجديد، أي ما يتناقض معه.
وبسبب اختيارها التصوير في بيئة ليست هي بيئة غزة المعروفة فقد اكتفت بتصوير لقطات متوسطة حتى في المناظر الخارجية فحرمت بالتالي الفيلم من تلك العلاقة الحميمية الخاصة المطلوبة بين الشخصيات والمكان، خصوصا إذا كانت للمكان خصوصياته وملامحه الخاصة.
واستخدام الشعر في الفيلم ليس موفقا بل بدا عبئا عليه، بحيث أصبح في الكثير من الأحيان مقحما بل ومضحكا أيضا في السياق الذي صور فيه.
أما الآفة الكبرى في الفيلم فهو يتعلق بالتمثيل، فكل الممثلين يفتقدون الى القدرة على التعبير بأي طريقة يمكن تصورها. وعلى حين تكتفي مايسة عبد الهادي التي قامت بدور ليلى، بالصراخ في كل المشاهد التي تظهر فيها، لا تبدو أي انفعالات على وجه قيس ناشف، الممثل الذي يقوم بدور قيس، فهو بلا انفعالات في كل المواقف، ويتسم وجهه بالجمود والتحجر أمام الكاميرا رغم ما يفترض من أنه قد ينفعل على الأقل، كشاعر يتأثر بالمواقف التي تواجهه، وهو يعجز عن التحرك بشكل طبيعي أمام الكاميرا، مع غياب الكيمياء بينه وبين زميلته التي أدت دور ليلى، بشكل يدعو الى الرثاء حقا. والمسؤولية في ذلك، تقع دون شك، على عاتق المخرجة سوزان يوسف، سواء في الاختيار أم في إدارة التمثيل، حتى لقد بدا أن الممثلين جميعا يؤدون كيفما اتفق أو كما يتراءى لهم. ولعل الاستثناء الوحيد هنا هو الممثل المخضرم يوسف أبو وردة الذي قام بدور والد ليلى.
ويتدنى الحوار في الفيلم إلى مستوى بدائي بحيث تصبح الشخصيات وكأنها تلوك كلمات محشوة في الفيلم حشوا بلا أي معني. كما في الحديث الطويل بين ليلى وقيس حول التدخين وأضراره، وكما في الحوار بين الشابين المتشددين وبطلينا. وهو حوار ضعيف وممطوط يدل على غياب القدرة على توليد المعاني الشعرية من الحوار ببساطة ودون افتعال، في فيلم يبدأ بطله بالتساؤل عن ذلك الانقطاع التاريخي في الشعر العربي بين عصر ابن عربي وعصر محمود درويش، وهو تساؤل يدل أيضا عن جهل بتطور الشعر العربي الذي أنتج عشرات الشعراء الكبار خلال القرون الماضية بعد ابن عربي وقبل محمود درويش!
وإذا كان هناك مشهد واحد يصلح للحكم على قدرات هذه المخرجة وما إذا كانت تتمتع بأي موهبة، فلعله المشهد الأخير (المجازي) الذي نرى فيه الاثنين في لقطات متوسطة (تخشى المخرجة أن تفضحها الطبيعة اذا ما فتحت الكاميرا إلى لقطة من بعيد قليلا) وهما يرقدان على الشاطيء بينما تحيط بهما مياه البحر.. وليلى تردد أغنية سخيفة تقول إنها تنتمي للبحر.. وإنها قادمة للماء، أو شيئا من هذا القبيل، بما يوحي بأنها ستغرق نفسها، ودون أن تخاطر المخرجة حتى بتصوير الممثلة والمياه تغطي جسدها!
وبشكل عام يبدو إيقاع الفيلم هابطا مترهلا، مع هبوط إيقاع التمثيل، ووجود الكثير من المشاهد واللقطات الزائدة (عليك فقط أن تتأمل مشهد محاولة ليلى الخروج من منزل الأسرة بعد رفضهم الانصياع لإراداتها في حين يغلق أبوها باب المنزل رافضا خروجها. هنا يتوالى صراخها بهستيرية لا تنقطع، وتشنجاتها وطرقاتها على الباب وترديدها جملة حوار واحدة تستغرق عدة دقائق!).
الخلاصة أننا أمام تجربة في تصوير فيلم حصل على ما لا يتمتع به كثير من الأفلام التي تصنع في العالم العربي اليوم، كما حصل على دعم وتأييد أوساط دولية كونه من صنع مخرجة (امرأة)، يريدون أن يجعلوا منها أسطورة، ويجعلوا من فيلمها بديلا للأفلام الفلسطينية الأخرى الحقيقية، التي تكشف وتعبر بوضوح عن مأساة الفلسطينيين في سياق بصري أكثر قوة وإقناعا ومن خلال تجربة ومعايشة حقيقيتين.
هذا العمل المحدود القيمة، سيتصدر المشهد العام للمهرجانات السينمائية في العالم، وفي العالم العربي أيضا، لا شك في ذلك، في نوع من الاحتفالية التي لا تكرس في رأينا، سوى التدهور والضعف وخيبة الأمل!