أصغر فرهادي: “من الصورة الى الصورة”

فاز المخرج الإيراني أصغر فرهادي بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية عن فيلم “انفصال” في عام 2012 ثم عن فيلم “البائع” عام 2016، كما حصدت أفلامه العديد من الجوائز في مهرجان كان وبرلين، وغولدن غلوب، كان آخرها فيلم “البطل” الحائز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان 2021.

بدأ فرهادي العمل في الإذاعة في سن 13 عاما، وانتقل الى العمل في إخراج الأفلام قبل أن يدرس هذا التخصص في جامعة طهران وجامعة الشهيد مدرس للفنون الجميلة، وقد تأثر بمخرجين مثل دي سيكا وفيلليني وبيرجمان وانطونيوني ووايلدر وكيسلوفسكي، قبل أن يتمكن من تقديم سينماه الملفتة للعالم والتي أخرج جزءا ً من زبدتها في كتابه ” من الصورة الى الصورة.. كيف يكتب السيناريو”.

يقدم الكاتب والسينمائي العماني عبد الله الحبيب للكتاب الصادر عن منشورات تكوين في الكويت بطبعته الثانية- فبراير 2025 بواقع 150 صفحة، بأنه يمثل مساقاً تثقيفياً شاملاً ومتكاملاً عن السينما، كما رآها فرهادي وخَبِرها وكما يطمح إليها، واصفاً اياه بأحد الرموز الكبرى لسينما ما بعد الموجة الجديدة في إيران الجمهورية.

 وبما أن الحصول على ثقافة سينمائية رفيعة وراسخة وحكيمة ونوعية لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال المشاهدات السينمائية الغزيرة والمتنوعة لسينما العالم بكل أنواعها، فقد ذهب الحبيب الى المقارنة بين السينما العربية والإيرانية التي تبدو أفضل بكثير من نظيرتها العربية، وقد بلغت قدراً رفيعاً ضمن ظروف إنتاجية وسياسية وأيديولوجية أقل من مثالية، بشهادة مخرجين ونقاد سينمائيين كالمخرج الفرنسي جان لوك غودار، والأكاديمي الأمريكي ديفيد بوردول، على الرغم من أن تاريخ انتاج أول فيلم مصري روائي عام 1927 يسبق بثلاث سنوات إنتاج أول فيلم إيراني صامت عام 1930.

تبدأ الفكرة بالنسبة لفرهادي بعلامة استفهام غامضة ومشكوك فيها، تترسخ في الذهن إلى أن تصبح صورة حية، وقد اعتبرها منصة الإطلاق التي تقود الى عالم القصة، ومفتاح المؤلف لدخول القصة هو السؤال الذي يسمح برؤية الأفكار التي يتم تكوينها كخطوة أولى لصناعة الفيلم.

من فيلم “البائع|”

أما الخطوة الثانية فهي تقديم فرضيات، تمثل الإجابة المحتملة عن الأسئلة المطروحة وإثباتها، إلى أن نجد قصة مكونة من ثلاثة أسطر.

وتتمثل الخطوة الثالثة في وضع خطة لكتابة الفكرة المطلوبة، يمكن كتابتها في صفحة واحدة، وتضم الأحداث العامة للقصة، وتحتوي على خطوط ثلاث هي: البداية والنهاية والوسط (الحبكة)، بوجود المكان والزمان الذي يقع فيه الحدث، والشخصية التي تقوم بتعزيز الموضوع الذي تتمحور حوله القصة.

وبعد كتابة الفكرة في ثلاثة أسطر، والقصة في صفحة واحدة، يوضح فرهادي ضرورة الانتقال الى كتابة الملخص في عشر صفحات، والذي يتضمن المشاهد والحبكات الفرعية والعلاقة بين الشخصيات وهي التي تؤثر على الحبكة الدرامية للقصة.

تملك الشخصية الرئيسية- حسب فرهادي- الحرية والسلطة في التصرف والقرار، وتنقسم الى قسمين هما: البطل ونقيض البطل أو البطل المضاد، وليس بالضرورة أن تكون شخصية البطل إيجابية، فقد يتماثل المتفرج مع البطل ويشجعه، وقد يفعل عكس ذلك في حال كان البطل المضاد هو الايجابي والرئيسي هو السلبي.

أما الشخصيات الثانوية فتساعد البطل بسلوكها أو تضع عوائق أمامه، وهي التي تخلق السياق لقرار الشخصية الرئيسية، بصرف النظر عن نسبة ظهورها على الشاشة، لافتاً الى أن تصنيف الشخصيات لا يتحدد بنسبة ظهورها على الشاشة وكثرته، إنما بالهدف الذي تسعى إليه الشخصية وحجم العوائق التي تجتازها، وكيف تمهد الطريق للشخصيات الأخرى للوصول الى الحقيقة  وإبقاء الصراع دائرًا، وهي ليست كما هو دارج في “سينمانا” كما يقول فرهادي؛ أي ذلك الشخص الذي يرافق البطل، وليس له أية وظيفة سوى أن يترك الشخصية الرئيسية تتحدث معه وتقول له الأشياء لتوصل أفكارها الى الجمهور.

وفي تصنيفه للشخصيات يوضح فرهادي دور الشخصيات الفنية التي لا تؤدي دواًر درامياً وليس لها تأثير على القصة، ويكون عادة دورها قصير وهامشي، لكنها تصنع العالم الحقيقي للفيلم وتكوِّن نسيجه الواقعي، حتى يتسنى للشخصيات الرئيسية والثانوية التحدث وتزويد الجمهور بالمعلومات، أما الشخصيات الرمادية فهي التي تتوازن أخطاؤها وحسناتها، وهي حسب اعتقاد فرهادي تمثل غالبية الناس، وهذا سبب طغيان اللون الرمادي على أفلامه؛ حيث يشعر بأن جمهوره كذلك.

وقد حرص فرهادي على تقديم النصائح المبطنة للمؤلفين الجدد بخصوص الشخصيات، ومن ذلك أن يرجعوا الى ما أسماه “البنك العاطفي” للشخصية لتحديد أبعادها الاجتماعية والنفسية والأيديولوجية، مطالباً إياهم بضرورة تكرار سلوك الشخصية 3 مرات على الأكثر حتى يمكن استخدامه في سياق الفيلم، وقد ضرب مثالاً على ذلك تحليل العلاقة بين الشخصيات في قصة الفيلم الأمريكي “عربة اسمها الرغبة”.

تناول فرهادي نوعين من الحوار الدرامي الذي يجعل القصة تتقدم وبدونه تتوقف وتنتهي، والحوار الفني الذي يسبب الحوارات الدرامية البسيطة وغير المهمة، ويسهم في خلق الفضاء العام ورسم المشهد، ناصحاً كتاب السيناريو بالتقليل منها،  كونها تعيق نقل الإحساس بالواقع الى الجمهور، مشيراً الى أن كتابتها أصعب من الحوارات الدرامية، فهي التي تخلق نغمة الحوار على الرغم من بساطتها.

واستناداً الى مهمة الحوار التي تقوم على تقديم المعلومات وموضوع العمل للجمهور وتعزيز القصة وخلق الإيقاع، انتقد فرهادي ما يعرف بالحوارات الخطابية أو حوار الشعارات الذي تلجأ إليه السينما الإيرانية كما يرى، والتي لا تراعِ وعي الجمهور حين كتابتها وتجبره على فهم الموضوع بالحوار، وهذا ما يجب أن يكتشفه الجمهور بذكائه وليس بالقوة، كما انتقد أيضا الحوار العاطفي،  مبرراً بأنه لا يستطيع خلق موقف عاطفي يوصل الفكرة الى الجمهور.

ومن ضمن النصائح التي قدمها فرهادي لكتاب السيناريو مراعاة التوافق بين الحوار والمستوى الاجتماعي وذكاء الشخصية والفئة التي تنتمي لها؛ مفسراً أن الشخص الواثق من نفسه يستخدم كلمات أقل، وكلما قللت الشخصيات من شرح نفسها ارتفعت مكانتها بين الجمهور؛ فالشخص الذي يعيش في القرية مثلاً يمكنه استخدام 1500 كلمة طوال حياته، فيما يستخدم الرسام المقيم في طهران 7000 كلمة أو أكثر.

كما نصح بضرورة مراعاة الحد الفاصل بين الكاتب والمخرج بالنسبة لمن يجمع بين المهمتين، فالإخراج خلال فترة الكتابة يصبح عديم الفائدة أثناء أداء مهمة الإخراج، لأنه يحصر المخرج في أمر قبل حدوثه، مشيراً الى أن أسوأ طريقة لتقديم معلومات عن الفيلم، هي إعطاء معلومات مباشرة ومنع الجمهور من متعة البحث والاستنتاج بنفسه.

من فيلم “الماضي”

طوى المخرج الإيراني أصغر فرهادي الصفحات الأخيرة من كتابه بتحليل لسيناريو فيلمه “مدينة جميلة” إنتاج عام 2004، وقبل الوصول الى مرحلة التصوير لم يفته أن يقدم بعض التعليمات المتعلقة بمرحلة التصور التي تسبق عرض مشروع الفيلم على المنتج، ومن ذلك تلخيص المشهد في ملخص مع كل التتابعات وترقيمها، بطريقة تنقل المعنى في خطاب بسيط وواضح، بالإضافة الى حذف الحوار من المشهد وتقييمه بدونه مع حذف كل ما لا يمكن تخيله، وأن لا يقل عدد الصفحات المقدمة في التصور عن 30 صفحة، منهياً بذلك الفصل الأخير من كتابه الذي اصطحب القارئ عموما والمتخصص في السينما خصوصاً في رحلة تعليمية شيقة حول كتابة السيناريو بطريقة احترافية.