أشباح الهولوكوست تحلق مجددا في فضاء السينما العالمية

Print Friendly, PDF & Email

“امرأة من ذهب”.. يفتح ملف اللوحات الفنية التي سرقها النازيون

مرة أخرى نحن أمام موجة أفلام تعيد فتح ملف ما يعرف بـ”الهولوكوست”، أي ما تعرض له اليهود على أيدي النازيين خلال الحرب العالمية الثانية من تنكيل ويعتبره كثيرون خطة نازية لـ “الابادة الجماعية” كانت تستهدف اليهود دون غيرهم، في تجاهل لملايين الضحايا من الروس والبولنديين والغجر والمثليين والاشتراكيين والمرضى العقليين وأصحاب العاهات.

تبدو الموجة الجديدة من أفلام الهولوكوست، وكأنها تستهدف الرد على موجة الانتقادات الموجهة إلى إسرائيل في الغرب، خصوصا بعد اتساع الحملة الأخيرة لمقاطعة الجامعات الإسرائيلية، وتجرؤ الكثير من المشاهير سواء من نجوم السينما أو غيرهم، على انتقاد إسرائيل في وسائل الإعلام خلال الفترة الأخيرة، كما فعل بن أفليك على سبيل المثال.

عرضت مؤخرا أفلام كثيرة، روائية وتسجيلية، تعيد فتح هذا الملف بأشكال مختلفة، بدعوى أن ما وقع قبل أكثر من سبعين عاما ليس من الممكن نسيانه أو غفرانه، وأن الواجب الأخلاقي يقتضي التذكير به في كل الأوقات، وكأن المطلوب من السينمائيين في الغرب، أن يصبحوا ترسا في آلة الدعاية الصهيونية العملاقة التي لا تكف عن ترسيخ فكرة “العذاب” الذي منى به “الشعب اليهودي”، وأن “الهولوكوست”، وهي كلمة ذات مغزى ديني، ظاهرة تتعلق باليهود وحدهم، وليس من الممكن مقارنة بين ما وقع لليهود بما وقع لغيرهم في أي وقت.

شاهدنا الفيلم الوثائقي المسمى “معسكرات الاعتقال الألمانية: إحصائية دقيقة”، ثم “سيحل الظلام” ، ثم الفيلم الروائي “رجال التحف الفنية”، ثم “إيدا” البولندي، و”في الظلام” وهو فيلم روائي بولندي آخر، ثم “حكاية الحب والظلام” الإسرائيلي الأمريكي، ثم الفيلم المجري “إبن شاؤول”. والقائمة تطول.

معسكرات الاعتقال

يعتمد فيلم “سيحل الليل”للمخرج البريطاني أندريه سنغر، على لقطات كاملة مأخوذة من الفيلم القديم “معسكرات الاعتقال الألمانية” الذي كُلِّف بإنتاجه وإخراجه سيدني برنشتاين الذي كان يرأس وحدة السينما بوزارة الإعلام البريطانية، لصنع فيلم دعائي عن الفظائع التي وجدت داخل معسكرات الاعتقال النازية، على أن يعرض الفيلم على الشعب الألماني، في إطار الحرب النفسية التي كانت تهدف إلى نوع من “غسيل المخ” عن طريق الصور الصادمة، لكل من كان يؤمن بالنازية من الألمان بعد هزيمة ألمانيا في الحرب.وقد تم استدعاء هيتشكوك لكي يشرف بنفسه على مونتاج الفيلم، ولكن لم يقدر لهذا الفيلم أن يعرض، فقد رأى تشرشل أن عرضه سيمثل ضغطا نفسيا مضاعفا على الألمان بعد ان كانوا قد بدأوا يتعاونون مع الحلفاء بجدية في إعادة بناء البلاد، والنهوض بالاقتصاد الألماني مرة أخرى، وأن عرض الفيلم يمكن أن يكون له أثر سلبي.

ويتهم فيلم “إيدا” للمخرج البولندي بافل باولكوفسكي،البولنديين الكاثوليك باستغلال الخطاب النازي الدعائي المعادي لليهود  خلال الحرب العالمية الثانية، والمشاركة في قتل اليهود البولنديين، بغرض الاستيلاء على منازلهم وممتلكاتهم. لكن أهمية الفيلم ونقاط تميزه لا تعود فقط إلى هذا الجانب الذي يجعله مختلفا عن كثير من الأفلام التي سبقته، بل إلى شكل تناوله للموضوع وأسلوبه الفني المتميز.

ويصور فيلم “إبن شاؤول” بشكل مبتكر، آلية العمل داخل معسكرات الاعتقال بأسلوب تجريبي غير مسبوق من الناحية الجمالية، فهو يضع التفاصيل في خلفية الصورة، ويركز على رجل يهودي من مساعدي الحراس النازيين، يدعى شاؤول، يبحث عن رجل دين يهودي يقيم الصلوات على جثمان إبنه الذي قتل في غرفة الغاز.

أما “رجال التحف الفنية” فيصور كيف نجح “الحلفاء” في إنقاذ وإستعادة آلاف القطع الفنية النادرة (من اللوحات والتماثيل) التي كان النازيون قد سرقوها وأخفوها في عدد من المناجم في ألمانيا والنمسا.

امرأة من ذهب

ويمكن القول إنه من معطف هذا الفيلم، جاءت المحاولة الثانية (المنقحة) لفتح ملف التحف الفنية التي سرقها النازيون، من خلال فيلم “إمراة من ذهب” Woman in Gold الذي أخرجه سيمون كيرتس، وقامت ببطولته هيلين ميرين. ويروي الفيلم قصة (حقيقية) لامرأة متقدمة في العمر تدعى “ماريا التمان”، وهي يهودية نمساوية كانت قد فرت من فيينا الى الولايات المتحدة، بعد دخول دخول الألمان النمسا، واقتحامهم منزل أسرتها والاستيلاء على كل مقتنيات الأسرة من كنوز فنية وعلى رأسها اللوحة الشهيرة “أديل بلوخ باور” التي رسمها الفنان النمساوي غوستاف كليمت لخالة ماريا “أديل”، وبعد هزيمة النازية، أحيلت هذه اللوحة وغيرها الى متحف بلفديري الشهير في فيينا، وظلت هناك إلى أن عثرت ماريا بعد وفاة شقيقتها على مراسلات كانت في حوزة الشقيقة المتوفية، بشأن وصية الخالة التي ذكرت فيها اللوحة الذهبية.

اللوحة الذهبية محور الفيلم

تستعين ماريا بمحام شاب مبتديء، من أقربائها هو “راندول شونبرغ” حفيد الموسيقار اليهودي الذي قتله النازيون أرنولد شونبرغ، ويتوجه الاثنان الى النمسا من أجل اقناع السلطات النمساوية باعادة اللوحة التي أصبحت قيمتها تتجاوز 100 مليون دولار (في أواخر التسعينات وقت وقوع الأحداث)، لكن النمساويين يرفضون بصورة قاطعة، ويصرون على ضرورة بقاء اللوحة في “بلفديري”، ويستغرق الأمر كفاحا ونضالا طويلا وإجراءات معقدة، ورفع الأمر أيضا إلى المحكمة الأمريكية العليا، ثم العودة الى فيينا لاستئناف القضية ثم القبول بالتحكيم، إلى أن تنتصر ماريا في معركتها.

يصور الفيلم من خلال أسلوب ميلودرامي يمتليء بالمبالغات والمصادفات ويتوقف طويلا أمام تفاصيل يقصد من وراءها استدرار تعاطف المتفرج ودموعه أيضا، وإقناعه بأن ماريا لا تخوض كل هذه المعركة وهي التي تجاوزت الثمانين من عمرها، من أجل القيمة المادية اللوحة، بل “لتحقيق العدالة”، وهو تعبير يتكرر كثيرا في الفيلم، كما تقول إنها مصرة على الوفاء لذكري الأحباء الذين اضطرت لتركهم وراءها ليلقوا مصيرهم. لكنها مع ذلك ترفض المضي قدما في القضية عند مرحلة ما، لولا إصرار المحامي الذي لا نعرف هل دافعه هو المال أم القضية!

الحبكة المنقولة

ينتقل الفيلم بين الزمنين والمكانين، من لوس أنجليس الزمن المضارع، إلى فيينا أوائل الأربعينات، حيث نرى الكثير من المشاهد النمطية المألوفة التي تحفل بها أفلام الهولوكوست، من فظاظة وقسوة وعنف في تعامل النازيين مع اليهود، وارغامهم على إغلاق محالهم التجارية، والتعريض بهم علانية، ورفض السماح لهم بمغادرة البلاد، وكيف تحايلت ماريا وزوجها من أجل الهرب. ويتحول الفيلم في مرحلة ما إلى فيلم من أفلام قاعة المحكمة، يمتليء بالثرثرة والتفاصيل القانونية، كما أن يتردد في الحوار بين ماريا والمحامي، كلام كثير عن غرف الغاز في تريبلنكا وداخاو. ويلقي الفيلم اللوم على الشعب النمساوي فيما وقع اليهود، فهناك تكرار لفكرة ترحيب النمساويين بهتلر، وأنهم شاركوا مع النازيين في التنكيل باليهود وإرسالهم إلى “الهولوكوست”، ورغم ما يقوله المحامي (اليهودي) الشاب في البداية لماريا، من كون هذه الأحداث وقعت منذ زمن بعيد ولا شأن للأجيال الحالية بها، إلا أنها تصر على ضرورة أن تظل الذكرى قائمة وأن لا شيء على الإطلاق يمكنه أن يجعلها تنسى، وهو ما يضعف كثيرا من الفيلم، ويختزله إلى مجرد قطعة من الدعاية التي تحض على الكراهية الدائمة!

اتفق بلاشك مع من يمكنه أن يرى أن بناء الفيلم بمكوناته الأساسية، مقتبس من الفيلم البريطاني “فيلومينا” (2013) الذي قامت فيه جودي دنش بدور امرأة أيرلندية مسنة تبحث بمساعدة صحفي شاب، عن ولدها المفقود – وهو طفلها غير الشرعي- الذي انتزعته راهبات دير كاثوليكي قبل خمسين عاما، ثم أرسلوه إلى أمريكا، فالفيلمان يتفقان أولا في كونهما مأخوذان عن قصة حقيقية. وفي “امرأة من ذهب” لدينا في مقابل فيلومينا، ماريا، وبدلا من الصحفي الشاب لدينا المحامي الشاب، وبدلا من الراهبات البشعات اللاتي أخفين الحقيقة عن فيلومينا، لدينا النازيون القساة الغلاظ، وبدلا من الطفل المفقود، هناك لوحة غوستاف كليمت!

بينما كان “فيلومينا” فيلما يشع بالسحر والجمال، ويمتليء بالفكاهة والتلقائية المحببة التي تتسلل من خلال تلك “الهارمونية” التي تربط بين أداء جودي دنش وأداء ستيف كوغان، جاء أداء هيلين ميرين، رغم تقمصها الدقيق لشخصية المرأة اليهودية المسنة، ثقيلا مغاليا فيه، فهي لا تكف عن الصياح والاعتراض والمقاطعة، تحتد على المحامي دون سبب، وتصيح وسط قاعة المحكمة تقاطع القاضية، وكأنها لم تتعلم شيئا خلال إقامتها في لوس أنجليس قبل ستين عاما. وأنت كمتفرج، تشعر في لحظة ما، بأنك تريد أن تصرخ فيها أن تصمت!  

Visited 28 times, 1 visit(s) today